فصل: فصل: (في ارتداد المسلم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


كتاب السير

وهي جمع سيرة، وهي الطريقة خيرا كانت أو شرا، ومنه سيرة العمرين‏:‏ أي طريقتهما؛ ويقال‏:‏ فلان محمود السيرة، وفلان مذموم السيرة‏:‏ يعني الطريقة، وسمي هذا الكتاب بذلك لأنه يجمع سير النبي عليه الصلاة والسلام، وطريقته في مغازيه، وسيرة أصحابه وما نقل عنهم في ذلك؛ والجهاد فريضة محكمة يكفر جاحدها، ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة وإجماع الأمة‏.‏ أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ إلى غيرها من الآيات في الأمر بقتال الكفار‏.‏ والسنة قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله‏)‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الجهاد ماض‏:‏ أي فرض منذ بعثني الله تعالى إلى يوم القيامة، حتى يقاتل عصابة من أمتي الدجال‏)‏ وعليه إجماع الأمة‏.‏ وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا بعث جيشا أو سرية أوصى صاحبهم‏:‏ أي أميرهم بتقوى الله تعالى وقال‏:‏ ‏(‏اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال إلى الإسلام، فإن أسلموا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، وإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية، فإن أبوا فانبذوا إليهم‏:‏ أي أعلموهم بالقتال، وإذا حاصرتم حصنا أو مدينة فأرادوكم أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تنزلوهم، فإنكم لا تدرون ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم ما رأيتم، وإذا أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسول الله فلا تعطوهم ذلك، ولكن أعطوهم ذمتكم وذمة آبائكم، فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة آبائكم أهون من ذمة الله وذمة رسوله‏)‏ وإخفار الذمة‏:‏ نقضها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الجهاد فرض عين عند النفير العام وكفاية عند عدمه‏)‏ أما الأول فلقوله تعالى‏:‏‏)‏ نفروا خفافا وثقالا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ الآية، والنفير العام‏:‏ أن يحتاج إلى جميع المسلمين فلا يحصل المقصود وهو إعزاز الدين وقهر المشركين إلا بالجميع، فيصير عليهم فرض عين كالصلاة، وإذا لم يكن كذلك فهو فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين كرد السلام ونحوه، لأن المراد والمقصود منه دفع شر الكفر وكسر شوكتهم، وإطفاء ثائرتهم وإعلاء كلمة السلام، فإذا حصل المقصود بالبعض فلا حاجة إلى غيرهم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى الجهاد ولا يخرج جميع أهل المدينة، ولأنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فيكون على الكفاية، ولأنه لو وجب على جميع الناس تعطلت مصالح المسلمين من الزراعات والصنائع، وانقطعت مادة الجهاد من الكراع والسلاح فلا يقدر المجاهدون على الإقامة على الجهاد فيؤدي إلى تعطيله، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه كسائر فروض الكفاية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وقتال الكفار واجب على كل رجل عاقل صحيح حر قادر‏)‏ لأن المرأة والعبد مشغولان بخدمة السيد والزوج، وحق العبد مقدم، والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب، وأما غير القادر فلأن تكليف العاجز قبيح كالمريض والأعمى والمقعد ونحوهم، وفيه نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرج‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ الآية التي في سورة الفتح‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا هجم العدو وجب على جميع الناس الدفع، تخرج المرأة والعبد بغير إذن الزوج والسيد‏)‏ لأنه يصير فرض عين، وحق الزوج والسيد لا يظهر في مقابلة فرض الأعيان كالصلاة والصوم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بالجعل إذا كان بالمسلمين حاجة‏)‏ لأنه دفع الضرر الأعلى باحتمال الأدنى، والحاجة أن لا يكون في بيت مال المسلمين شيء ويحتاج المسلمون إلى الميرة ومواد الجهاد ولا شيء لهم؛ وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ دروعا من صفوان، وكان عمر رضي الله عنه يغزي الأعزب عن ذي الحليلة، ويعطي الشاخص فرس القاعد‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا حاصر المسلمون أهل الحرب في مدينة أو حصن دعوهم إلى الإسلام‏)‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام ما قاتل قوما حتى دعاهم إلى الإسلام، ولما تقدم من الحديث، ولأنهم ربما أسلموا فيحصل المقصود بأهون الشرين ‏(‏فإن أسلموا كفوا عن قتالهم‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس‏)‏ الحديث، ولما سبق من الحديث، ولأن المقصود إسلامهم وقد حصل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن لم يسلموا دعاهم إلى أداء الجزية‏)‏ لما سبق من الحديث ‏(‏إن كانوا من أهلها وبينوا لهم كميتها، ومتى تجب‏)‏ على ما يعرف في بابه، أما إذا لم يكونوا من أهلها لا يدعوهم، لأنه لا فائدة فيه، إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ويعرفهم قدرها لتنقطع المنازعة بعد ذلك، ولأن القتال ينتهي بالجزية، قال تعالى‏:‏‏)‏ حتى يعطوا الجزية عن يد‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ أي حتى يقبلوها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن قبلوها فلهم ما لنا وعليهم ما علينا‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏فإذا قبلوها فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين‏)‏‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا‏.‏ والمراد بالبذل القبول إجماعا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويجب أن يدعو من لم تبلغه الدعوة‏)‏ لما تقدم وليعلموا ما يقاتلهم عليه فربما أجابوا فنكفي مؤنة القتال، فإن قاتلهم بغير دعوة قيل يجوز، لأن الدعوى إلى الإسلام قد انتشرت في دار الحرب فقام الشيوع مقام البلوغ، وقيل لا يجوز وهو آثم للنهي أو لمخالفة الأمر على ما مر، ولأن الشيوع في بعض البلاد لا يعتبر شيوعا في الكل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويستحب ذلك لمن بلغته‏)‏ الدعوة أيضا مبالغة في الإنذار وهو غير واجب، لأنه عليه الصلاة والسلام أغار على بني المصطلق وهم غازون‏.‏ وعن أسامة بن زيد ‏(‏أن النبي عليه الصلاة والسلام عهد إليه أن يغير على بني الأصفر صباحا ثم يحرق نخلهم‏)‏ والغارة لا تكون عن دعوة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن أبوا‏)‏ يعني عن الإسلام والجزية ‏(‏استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم‏)‏ لما بينا، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم‏)‏ ولأنه أعذر إليهم فأقاموا على عداوتهم فوجبت مناجزتهم، وأن يستعان بالله تعالى عليهم، لأنه الناصر لأوليائه المذلّ لأعدائه فيستعان به‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ونصبوا عليهم المجانيق، وأفسدوا زروعهم وأشجارهم، وحرقوهم ورموهم، وإن تترسوا بالمسلمين ويقصدون به الكفار‏)‏ لأن في ذلك غيظا وكبتا للكفار وهو المقصود، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام حاصر أهل الطائف فرماهم بالمنجنيق وكان فيهم المسلمون، ولأن بلادهم لا تخلو عن المسلمين الأسرى والتجار والأطفال، فلو امتنع القتال باعتبار ذلك لامتنع أصلا، ولا يقصدون بالرمي المسلمين تحرزا عن قتلهم بقدر الإمكان ‏(‏ولما مر صلى الله عليه وسلم يريد الطائف بدا له قصر عمر بن مالك النضري فأمر بتحريقه، فلما انتهى إلى الكروم أمر بقطعها‏)‏‏.‏ قال الزهري‏:‏ وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وحرق البيوت؛ ولما تحصن بنو النضير من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع نخلهم وتحريقه، فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم ما كنت ترضى بالفساد، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 5‏]‏ فبين أنه لم يكن فسادا، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا، ولا يغلوا، ولا يمثلوا‏)‏ لما روينا من الحديث أول الباب؛ والغلول‏:‏ الخيانة والسرقة من المغنم؛ والغدر‏:‏ نقض العهد فلا يجوز بعد الأمان، ولا بأس به قبله وهو حيلة وخدعة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الحرب خدعة‏)‏ والمثلة المنهية بعد الظفر بهم، ولا بأس بها قبله لأنه أبلغ في كبتهم وأضر بهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يقتلوا مجنونا ولا امرأة، ولا صبيا، ولا أعمى، ولا مقعدا، ولا مقطوع اليمين، ولا شيخا فانيا، إلا أن يكون أحد هؤلاء ملكا، أو ممن يقدر على القتال، أو يحرض عليه، أو له رأي في الحرب أو مال يحث به، أو يكون الشيخ ممن يحتال‏)‏ لنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل الصبيان والذراري، ورأى عليه الصلاة والسلام امرأة مقتولة فقال‏:‏ ‏(‏هاه ما لها قتلت وما كانت تقاتل‏؟‏‏)‏ ولأن الموجب للقتل هو الحِراب بإشارة هذا النص وهؤلاء لا يقاتلون والمجنون غير مخاطب، وكذلك مقطوع اليد والرجل من خلاف، ويابس الشق لما بينا، فإذا كان أحد هؤلاء ملكا، أو يقدر على القتال، أو له مال يعين به، أو رأي لا يؤمن شره فصار كالمقاتل ‏(‏والنبي صلى الله عليه وسلم قتل دريد بن الصمة وكان له مائة وعشرون سنة لأنه كان صاحب رأي‏)‏ ويقتل الرهابين وأهل الصوامع الذين يخالطون الناس أو يدلون على عورات المسلمين لما مر، فإن كانوا لا يخالطون الناس أو حبسوا أنفسهم في جبل أو صومعة ونحوه لا يقتلون لما بينا‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في موادعة أهل الحرب‏]‏

‏(‏وإذا كان للمسلمين قوة لا ينبغي لهم موادعة أهل الحرب‏)‏ لأنه لا مصلحة في ذلك لما فيه من ترك الجهاد صورة ومعنى أو تأخيره، لأن الموادعة طلب الأمان وترك القتال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 35‏]‏ ‏(‏وإن لم يكن لهم قوة فلا بأس به‏)‏ لأنه خير للمسلمين، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ‏(‏‏[‏الأنفال‏:‏ 61‏]‏ أي إن مالوا إلى المصالحة فمل إليهم وصالحهم، والمعتبر في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين، فيجوز عند وجود المصلحة دون عدمها، ولأن عليهم حفظ أنفسهم بالموادعة، ألا يرى أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين، ولأن الموادعة إذا كانت مصلحة المسلمين كان جهادا معنى، لأن المقصود دفع الشر وقد حصل، وتجوز الموادعة أكثر من عشر سنين على ما يراه الإمام من المصلحة، لأن تحقيق المصلحة والخير لا يتوقت بمدة دون مدة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن وادعهم، ثم رأى القتال أصلح نبذ إلى ملكهم‏)‏ وقاتلهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانبذ إليهم على سواء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 58‏]‏ والنبي صلى الله عليه وسلم نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة، ولأن المعتبر المصلحة على ما بينا، فإذا تبدلت يصير النبذ جهادا، وتركه ترك الجهاد صورة ومعنى، ولا بد من النبذ تحرزا عن الغدر المنهي عنه، ويكتفي بعلم الملك لأنه صاحب أمرهم ويعلمهم بذلك، ويشترط مدة يبلغ خبر النبذ إلى جماعتهم، فإذا مضت مدة يمكن الملك إعلامهم جاز مقاتلتهم وإن لم يعلمهم، لأن التقصير من ملكهم فلا يكون غدرا، ولو آمنهم ولم ينزلوا من حصنهم فلا بأس بقتالهم بعد الإعلام، وإن نزلوا إلى عسكر المسلمين فهم على أمانهم حتى يعودوا إلى حصنهم لأنهم نزلوا بسبب الأمان، فلا يزالون على حكمه حتى يعودوا إليه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن بدؤوا بخيانة وعلم ملكهم بها قاتلهم من غير نبذ‏)‏ لأنهم قد نقضوا العهد لما كان باختيار ملكهم؛ أما لو دخل منهم جماعة دارنا وقطعوا الطريق بغير أمر الملك لا يكون نقضا في حق الجميع لأنه بغير إذن الملك، ويكون نقضا في حقهم خاصة فيقتلون‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويجوز أن يوادعهم بمال وبغيره‏)‏ إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، ولهم حاجة إلى المال لما مر ‏(‏وما أخذوه قبل محاصرتهم‏)‏ بأن أرسل إليهم رسولا ‏(‏فهو كالجزية‏)‏ لا يخمس لأنه مال أهل الحرب حصل لنا بغير قتال ‏(‏و‏)‏ ما أخذوه ‏(‏بعدها‏)‏ أي محاصرتهم يخمس ‏(‏كالغنيمة‏)‏ ويقسم الباقي لأنه حصل بقوة الجيش‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن دفع إليهم مالا ليوادعوه جاز عند الضرورة‏)‏ وهو خوف الهلاك، لأن دفع الهلاك واجب بأي طريق كان، فإنه إذا لم يكن بالمسلمين قوة ظهر عليهم عدوهم فأخذ الأنفس والأموال، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏اجعل مالك دون نفسك‏)‏ وإن لم يكن ضرورة لا يجوز لما فيه من إلحاق الذلة بالمسلمين وإعطاء الدنيئة‏:‏ أي الخسة في الدين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والمرتدون إذا غلبوا على مدينة، وأهل الذمة إذا نقضوا العهد كالمشركين في الموادعة‏)‏ أما المرتدون فلأن الإسلام مرجو منهم فيوادعهم لينظروا في أمورهم فربما عادوا إلى الإسلام، إلا أنه لا يأخذ منهم مالا لأنه بمنزلة الجزية، ولا جزية عليهم لأنه لا يجوز تأخير قتلهم بمال يؤخذ منهم لما يأتي إن شاء الله تعالى، ولو أخذه لا يرده لعدم العصمة، ولو غلبوا فقد صارت دارهم دار حرب وأموالهم غنيمة، فكذا أهل الذمة لأنهم لما نقضوا العهد صاروا كغيرهم من أهل الحرب، ويجوز أخذ المال منهم لأنه لا يجوز تركهم بالجزية، بخلاف المرتدين وعبدة الأوثان من العرب كالمرتدين في الموادعة، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وكذلك أهل البغي في الموادعة، لكن إن أخذ منهم مالا يرده عليهم إذا وضعت الحرب أوزارها لأنهم مسلمون لو أصيب مالهم بالقتال يرد عليهم، ويكره لأمير الجيش أو قائد من قواد المسلمين أن يقبل هدية أهل الحرب فيختص بها، بل يجعلها فيئا للمسلمين لأنه إنما أهدى إليه بمنعة المسلمين لا بنفسه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويكره بيع السلاح والكراع من أهل الحرب وتجهيزه إليهم قبل الموادعة وبعدها‏)‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولما فيه من تقويتهم على المسلمين لأنه معصية، وكذلك الحديد وكل ما هو أصل في آلات الحرب، وهو القياس في الطعام والشراب، إلا أنا جوزناه لما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر ثمامة بأن يمير أهل مكة وكانوا حربا علينا، ولأنا نحتاج إلى بعض ما في بلادهم من الأدوية، فلو منعنا عنهم الميرة لمنعوها عنا، ولا يكره إدخال ذلك على أهل الذمة لأنهم التحقوا بالمسلمين في الأحكام، ولا يمكن الحربي أن ينقل إلى دار الحرب السلاح والكراع والحديد والدقيق إذا اشتراه في دار الإسلام مسلما كان أو كافرا، ولا يمنع أن يرجع بما جاء به من هذه الأشياء لأنه تناوله عقد الأمان، فإن أسلم بعض عبيده منع من إدخاله دار الحرب لأن المسلم يمنع من ذلك، ولا بأس بإدخال المصحف أرض الحرب لقراءة القرآن مع جيش عظيم أو تاجر دخل بأمان لأن الغالب السلامة، ويكره ذلك مع سرية أو جريدة خيل يخاف عليهم الانهزام لأنه ربما وقع في أيدي أهل الحرب فيستخفون به وكتب الفقه بمنزلة المصحف‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الأمان‏]‏

‏(‏وإذا أمن رجل أو امرأة كافرا أو جماعة أو أهل مدينة صح‏)‏ أمانهم فلا يحل لأحد من المسلمين قتالهم؛ وشرط صحة الأمان أن يكون المؤمّن ممتنعا مجاهدا يخاف منه الكفار، لأن الأمن إنما يكون بعد الخوف، والخوف إنما يتحقق من الممتنع، والواحد يقوم مقام الأكل في الأمان لتعذر اجتماع الكل، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم‏)‏ أي أن الواحد يسعى بذمة جميعهم‏.‏ وروي ‏(‏أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّنت زوجها، فأجاز صلى الله عليه وسلم أمانها، وأجارت أم هانئ رجلين من المشركين، فأراد علي أن يقتلهما وقال لها‏:‏ أتجيرين المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لا تقتلهما حتى تقتلني دونهما، ثم أغلقت دونه الباب وجاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته بذلك، فقال‏:‏‏)‏ ما كان له ذلك فقد أجرنا من أجرت وأمّنّا من أمّنت ‏(‏فعلم أن أمان الواحد جائز؛ وإذا جاز أمانه لا يجوز لأحد التعرض له بقتل ولا أخذ مال كما لو آمنه الإمام‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن كان فيه مفسدة أدّبه الإمام‏)‏ لافتياته على رأيه، بخلاف ما إذا كان فيه مصلحة، لأنه ربما يفوت بالتأخير فيعذر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ونبذ إليهم‏)‏ لأن الإمام إذا أمّنهم أو صالحهم ثم رأى النبذ أصلح نبذ إليهم فهذا أولى، وينبغي للإمام إذا جاؤوه بالأمان أن يدعوهم إلى الإسلام أو إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوه إلى الإسلام فبها ونعمت، وإن أبوا وأجابوا إلى الجزية قبلت منهم وصاروا ذمة، وإن أبوا ردهم إلى مأمنهم وقاتلهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أبلغه مأمنه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏ ولأنه لا يجوز التعرض لهم مع الأمان، ولا يجوز تركهم على الكفر من غير جزية فيعرض عليهم الإسلام أو الجزية التي يستحق معها الأمان، فإن أبوا لم يجز تركهم فيردهم ثم يقاتلوهم كما لو خرجوا إلينا بأمان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يصح أمان ذمي ولا أسير، ولا تاجر فهيم، ولا من أسلم عندهم وهو فيهم‏)‏ لأن الذمي متهم ولا ولاية له على المسلمين، والباقون مقهورون عندهم فلا يخافونهم فلا يكونون من أهل البيان على ما بينا، ولأنه لو انفتح هذا الباب لانسد باب الفتح، لأنهم كلما اشتد الأمر عليهم لا يخلون عن أسير أو تاجر فيتخلصون به وفيه ضرر ظاهر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا أمان عبد محجور عن القتال‏)‏ وقال محمد‏:‏ يصح، وقول أبي يوسف مضطرب‏.‏ لمحمد قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يسعى بذمتهم أدناهم‏)‏ وقياسا على المأذون له في القتال، ولأبي حنيفة أنهم آمنون منه، فلا يصح أمانه كالأسير والتاجر، ولأنه إنما لم يملك العقود لما فيها من إسقاط حق المولى، فلا يملك ما فيه إسقاط حق المولى وسائر المسلمين، وهو الأمان بطريق الأولى، بخلاف المأذون، لأنه لما أذن له في القتال فقد جعل إليه الرأي في القتال، وتارة يكون الرأي في القتال، وتارة في الكف عنه، فلذلك جاز أمانه، ولأن الخطأ من المحجور ظاهر لعدم علمه بعدم المباشرة، وخطأ المأذون نادر لمباشرته القتال‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا أمان للمراهق‏)‏ وقال محمد‏:‏ إن كان يعقل الأمان ويصفه يجوز أمانه لأنه يصير مسلما بنفسه ومن لا يعقل الإسلام إنما يحكم بإسلامه تبعا فلا يعتد به، ولأن المراهق من أهل القتال كالبالغ، ولأبي حنيفة أنه لا يملك العقود والأمان عقد، ومن لا يملك أن يعقد في حق نفسه ففي حق غيره أولى، وإن كان مأذونا له في القتال، قيل يصح أمانه، وعامة المشايخ أنه لا يصح لأن المصلحة والخيرية خفية لا يهتدي إليها إلا من له كثرة تجربة وممارسة وذلك بعد البلوغ‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في قسمة البلد بين الغانمين‏]‏

‏(‏وإذا فتح الإمام بلدة عنوة إن شاء قسمها بين الغانمين‏)‏ كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام بخيبر وسعد رضي الله عنه ببني قريظة ‏(‏وإن شاء أقر أهلها عليها ووضع عليهم الجزية وعلى أراضيهم الخراج‏)‏ كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بإجماع الصحابة، وكل ذلك قدوة فيتخير‏.‏ قالوا الأول أولى عند حاجة الغانمين، والثاني عند عدمها ليكون ذخيرة لهم في الثاني من الزمان، فإنهم يعملون للمسلمين وهم يعلمون وجوه الزراعات، ولهذا قالوا‏:‏ يعطيهم من المنقول ما لا بد لهم منه في العمل ليتهيأ لهم ذلك، ولأن المنّ برقابهم لا غير ولهم أراض أو برقابهم وأموالهم لا يجوز لأنه إبطال حق الغانمين لأن الرقاب لا تدوم بل تنقطع بالموت والإسلام، وإنما يجوز تبعا للأراضي نظرا للغانمين لئلا يشتغلوا بالزراعة فيتقاعدوا عن الجهاد، وفيه مصلحة لمن يجيء بعدهم كما قاله عمر رضي الله عنه، فإنه لما وضع الخراج على أرض العراق طلبوا منه قسمتها، واحتجوا عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ الآية، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء المهاجرين‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏ الآية، فاحتج عليهم بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم ‏(‏‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ لو قسمتها عليكم لم يبق لمن بعدكم شيء، فأطاعوه ورجعوا إلى قوله‏:‏ وإنما يملك إبطال حقهم بالقتل دفعا لشرهم فلا يتمحض ضررا؛ أما المنّ ضرر محض يجعلهم عونا للكفرة وهذا في العقار؛ وأما المنقول لا يرده عليهم لأنه لم يرد به الشرع‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن شاء قتل الأسرى‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام قتل، وفيه تقليل مادة الكفر والفساد، وقتل صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن شميل بعد ما حصل في يده، وقتل بني قريظة بعد ثبوت اليد عليهم ‏(‏أو‏)‏ إن شاء ‏(‏استرقهم‏)‏ لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة للمسلمين ‏(‏أو‏)‏ إن شاء ‏(‏تركهم ذمة للمسلمين‏)‏ لما تقدم إلا المرتدين ومشركي العرب على ما يأتي في الجزية، ولا يجوز ردهم إلى دار الحرب لأن فيه تقوية للكفرة على المسلمين، ولو أسلموا بعد الأخذ لا نقتلهم لاندفاع الشر، ويجوز استرقاقهم لانعقاد سبب الملك، بخلاف ما لو أسلموا قبل الأخذ حيث لا يجوز استرقاقهم لأنه لم ينعقد سبب الملك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يفادون بأسرى المسلمين‏)‏ وقالا‏:‏ يفادون بهم لأن في عود المسلمين إلينا عونا لنا، ولأن تخليص المسلم أولى من قتل الكفار، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإما منا بعد وإما فداء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏ ولأبي حنيفة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ‏(‏‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏ فيجب قتلهم وذلك يمنع ردهم، ولأن الكافر يصير حربا علينا، ودفع شر حرابهم خير من تخليص المسلم منهم، لأن كون المسلم في أيديهم ابتلاء من الله تعالى غير مضاف إلينا، وإعانتهم بدفع الأسير إليهم مضاف إلينا‏.‏ وذكر الكرخي، قال أبو يوسف‏:‏ تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة ولا تجوز بعدها وقال محمد‏:‏ يجوز على كل حال‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بالمال إلا عند الحاجة إليه‏)‏ لما بينا، ومفاداة النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر عاتبه الله تعالى عليها بقوله‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 68‏]‏ الآية، فجلس صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه إلا عمر‏)‏ لأنه أشار بقتلهم دون الفداء، والقصة معروفة؛ ويجوز عند الحاجة للاستعداد للجهاد، لأن المعتبر المصلحة وهي فيما ذكرنا‏.‏ قال محمد‏:‏ لا بأس بأن يفادى بالشيخ الفاني والعجوز الفانية بالمال إذا كان لا يرجى منه الولد لأنه لا معونة لهم فيه، بخلاف الصبيان والنساء لأن في الرد عليهم معونة لهم، ولا يجوز المنّ على الأسرى لما فيه من إبطال حق الغانمين بغير عوض فإن حقهم ثبت فيهم بالأسر فلا يبطل، ولأن النصوص الواردة في قتال المشركين وقتلهم تنفي ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا أراد الإمام العود ومعه مواش يعجز عن نقلها ذبحها وحرقها‏)‏ لكيلا ينتفعوا باللحم ولا يعقرها لأنه مثلة، وذبح الشاة جائز لغرض صحيح، وكسر شوكة الأعداء غرض صحيح وصار كقطع الشجر وتخريب البناء، أما الحرق قبل الذبح منهي عنه لما فيه من تعذيب الحيوان ‏(‏ويحرق الأسلحة‏)‏ والأمتعة أيضا، وما لا يحترق منها يدفن في موضع لا يقدر الكفار عليه إبطالا للمنفعة عليهم؛ أما الأسارى يمشون إلى دار الإسلام، فإن عجزوا قتل الرجال وترك النساء والصبيان في أرض مضيعة حتى يموتوا جوعا وعطشا، لأنا لا نقتلهم للنهي، ولو تركوا في العمران عادوا حربا علينا، فالنساء يحصل منهن النسل، والصبيان يكبرون فيصيرون حربا علينا فتعين ما قلناه‏.‏ ولهذا قالوا‏:‏ إذا وجد المسلمون في دار الحرب حيات وعقارب ينزعون حمة العقرب وأنياب الحية دفعا لضررها عنهم ولا يقتلونها لئلا ينقطع نسلهم وفيه منفعة الكفار، وقد أمرنا بضده‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏الغنيمة‏]‏

الغنيمة‏:‏ اسم لما يؤخذ من أموال الكفار على وجه القهر والغلبة، وما يؤخذ منهم هدية أو سرقة أو خلسة أو هبة فليس بغنيمة، وهو للآخذ خاصة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا تقسم غنيمة في دار الحرب‏)‏ لكن يخرجها إلى دار الإسلام فيقسمها‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إن قسمت في دار الحرب جاز، وأحب إلي أن تقسم في دار الإسلام ‏(‏ولا يجوز بيعها قبل القسمة‏)‏ ولا في دار الحرب ‏(‏ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا سهم له، وإن مات بعد إحرازها بدارنا فنصيبه لورثته‏)‏ وإذا لحقهم المدد في دار الحرب شاركوهم فيها، ولا تضمن بالإتلاف، وأصله أن الغنائم لا تملك بالإصابة ويثبت فيها الحق، وهو اليد الناقلة المتصرفة ويتأكد الحق بالإحراز ويثبت بالقسمة، فلو أسلم الأسير بعد الأخذ قبل الإحراز لا يكون حرا، ولو أسلم قبل الأخذ يكون حرا؛ والدليل أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب، والقسمة بيع معنى فيدخل تحت النهي، ولأنه عليه الصلاة والسلام قسم غنائم بدر بالمدينة، ولو جاز قسمتها قبل ذلك لم يؤخرها، لأن تأخير الحق عن مستحقه لا يجوز مع حاجته إليه إلا بإذنه، ولأن فيه ضررا بالمسلمين، لأن المدد يقطع طمعهم عنها فلا يلحقونهم فلا تؤمن كرة الكفار عليهم، وربما كان سببا لرجوع الكرة عليهم، لاشتغال كل منهم بحمل نصيبه والدخول إلى وطنه، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم غنائم خيبر فيها، وغنائم بني المصطلق فيها، فإنه فتحها وصارت دار الإسلام، ولو قسمها في دار الحرب جاز بالإجماع لأنه قضى في مجتهد فيه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والردء والمقاتل في الغنيمة سواء‏)‏ لاستوائهم في السبب وهو المجاورة أو شهود الوقعة على ما يأتي إن شاء الله تعالى، ولأن إرهاب العدو يحصل بالردء مثل المقاتل أو أكثر فقد شاركوا المقاتلة في السبب فيشاركونهم في الاستحقاق‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا لحقهم مدد في دار الحرب شاركوهم فيها‏)‏ لما مر‏.‏ وبذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص، وإنما تنقطع شركتهم إما بالإحراز بدرا الإسلام، أو بالقسمة في دار الحرب، أو ببيع الإمام الغنيمة في دار الحرب، فإذا وجد أحد هذه المعاني الثلاثة انقطعت الشركة، لأن الملك يستقر به، واستقلال الملك يقطع الشركة‏.‏ ولو فتح العسكر بلدا من دار الحرب واستظهروا عليه ثم لحقهم مدد لم يشاركوهم لأنه صار من بلد الإسلام فصارت الغنيمة محرزة بدار الإسلام فلا يشاركونهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وليس للسوقة سهم إلا أن يقاتلوا‏)‏ لعدم السبب في حقهم، وهو المجاوزة بقصد القتال فيعتبر السبب الآخر وهو حقيقة القتال، ويعتبر حاله عند القتال فارسا أو راجلا، وكذلك التاجر لما بينا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإذا لم يكن للإمام ما يحمل عليه الغنائم أودعها الغانمين ليخرجوها إلى دار الإسلام ثم يقسمها‏)‏ لما مر أن القسمة لا تجوز في دار الحرب، ولا بد من الحمل إلى دار الإسلام، فإن كان في الغنيمة حمولة حمل عليها، لأن المحمول والحمولة لهم؛ وكذا إن كان مع الإمام فضل حمولة في بيت المال حمل عليها لأنه مال المسلمين، وإن لم يكن معه فمن كان من الغانمين معه فضل حمولة يحمل عليها بالأجر بطيبة نفسه، وإن لم يطب لا يحمل لأنه لا يحل الانتفاع بمال المسلم إلا بطيبة من نفسه، هذه رواية السير الصغير‏.‏ وذكر في السير الكبير أنه يحتمل على كره منه بأجر المثل لأنه ضرورة وحالة الضرورة مستثناة كما إذا انقضت مدة الإجارة في المفازة أو في البحر أو في الزرع لقل تنعقد مدة أخرى بأجرة المثل فكذا هذا، فإذا لم يجد حمولة أصلا ذبح وأحرق وقتل على ما بينا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويجوز للعسكر أن يعلفوا في دار الحرب، ويأكلوا الطعام، ويدهنوا بالدهن ويقاتلوا بالسلاح، ويركبوا الدواب، ويلبسوا الثياب إذا احتاجوا إلى ذلك‏)‏ لما روى عمر رضي الله عنه أن جيشا غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يأخذ منهم الخمس‏.‏ وعن أوفى بن أبي أوفى أن الطعام يوم خيبر لم يخمس، وكان الرجل إذا احتاج إلى شيء ذهب فأخذه‏.‏ وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمير الجيش بالشام‏:‏ مر العسكر فليأكلوا وليعلفوا ولا يبيعوا بذهب ولا فضة، فمن باع بذهب أو فضة ففيه الخمس، ولأنه يتعذر عليهم حمل الطعام أو العلف إلى دار الحرب والميرة منقطعة عنهم، فإن أهل الحرب لا يبيعونهم فلو لم نجز لهم ذلك ضاق عليهم الأمر، أو نقول الطعام والعلف لا يمكن حمله إلى دار الإسلام غالبا فلا تجري فيه الممانعة فلذلك جاز، ولا يجوز أن يبيعوا شيئا من ذلك بذهب ولا فضة ولا عروض، لأنه إنما أبيح لهم ذلك للحاجة فلا يجوز لهم البيع كمن أباح طعامه لغيره ويردون الثمن إلى الغنيمة لأنه صار مالا يجري فيه التمانع كغيره من الأموال‏.‏ ‏(‏فإذا خرجوا إلى دار الإسلام لم يجز لهم شيء من ذلك‏)‏ لأن الحاجة زالت، ولأنه استقر حق الغانمين بالحيازة فلا ينتفع بعضهم بغير إذن الباقين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويردون ما فضل معهم قبل القسمة ويتصدقون بها بعدها‏)‏ ليقسم على مستحقيه، فإن وقعت القسامة يتصدقون به، يعني إن كانوا أغنياء، وإن كانوا محتاجين انتفعوا به لأنه لا يمكن قسمة ذلك بين جماعة الجيش فصار كمال لا يمكن إيصاله إلى مستحقيه وحكمه ما ذكرنا كاللقطة، وإن انتفعوا به بعد خروجهم إلى دار الإسلام إن كان غنيا تصدق بقيمته بعد القسمة لما بينا ويرده إلى الغنيمة قبل القسمة إيصالا للحق إلى مستحقه، وإن كان فقيرا رد قيمته قبل القسمة ولا شيء عليه بعدها على ما بينا، فإذا ذبحوا البقر أو الغنم ردوا الجلود إلى الغنيمة إذ لا حاجة لهم إليها، ولا ينتفع بما ذكرنا من الأشياء إلا من له سهم من الغنيمة أو يرضخ له غنيا كان أو فقيرا، ويطعم من معه من النساء والأولاد والمماليك ولا يطعم الأجير، وكذلك المدد، ولو أهداه إلى تاجر لا ينبغي أن يأكل منه إلا أن يكون خبز الحنطة أو طبيخ اللحم فلا بأس بالأكل منه لأنه ملكه بالاستهلاك‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الفارس والراجل‏]‏

‏(‏ينبغي للإمام أو نائبه أن يعرض الجيش عند دخوله دار الحرب ليعلم الفارس من الراجل‏)‏ ليقسم بينهم بقدر استحقاقهم ‏(‏فمن‏)‏ دخل فارسا ثم ‏(‏مات فرسه بعد ذلك فله سهم فارس‏)‏ وكذا لو أخذه العدو قبل حصول الغنيمة أو بعدها، لأن الفارس من أوجف على بلاد العدو بفرس فدخل فارسا، لأن المقصود إرهاب العدو دون القتال عليها، حتى أن من دخل فارسا وقاتل راجلا استحق سهم فارس، وإرهاب العدو إنما يحصل بالدخول لأن عنده ينتشر الخبر ويصل إليهم أنه دخل كذا كذا فارسا، وكذا كذا راجلا ويتعذر الوقوف عليهم عند القتال لأنه وقت التقاء الصفين وتعبئة الجيوش وترتيب الصفوف، والوقت حينئذ يضيق عن اعتبار الفارس من الراجل ومعرفتهم وكتبهم، وقد تقع الحاجة إلى القتال راجلا في المضايق وأبواب الحصون وبين الشجر ونحو ذلك، فوجب أن يعتبر السبب الظاهر وهو المجاوزة لحصول المقصود به على ما بينا، ولأن الله تعالى جعل الدخول في أرض العدو كإصابة العدو بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم ‏(‏التوبة‏:‏ 120‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن باعه‏)‏ أي فرسه ‏(‏أو وهبه أو رهنه أو كان مهرا أو كبيرا أو مريضا لا يستطيع القتال عليه فله سهم راجل‏)‏ لأن إقدامه على هذه التصرفات ومجاوزته بفرس لا يقدر عليه القتال دليل أنه لم يكن من قصده المجاوزة للقتال فارسا‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة‏:‏ له سهم فارس اعتبارا للمجاوزة وصار كموته، ولو باعه بعد القتال فله سهم فارس لحصول المقصود‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن جاوز راجلا ثم اشترى فرسا فله سهم راجل‏)‏ لأن العبرة للمجاوزة لما بينا‏.‏ وعن الحسن‏:‏ إذا دخل وهو راجل فاشترى فرسا أو وهب له أو استأجره أو استعاره وقاتل عليه فله سهم فارس، فصار عن أبي حنيفة في شهود الوقعة روايتان؛ وجه هذه الرواية أن الانتفاع بالفرس حالة القتال أكثر منها حالة المجاوزة، فإذا استحق سهم فارس بالدخول فلأن يستحقه بالقتال أولى‏.‏ وإذا غزا المسلمون في السفن فأصابوا غنائم فهم ومن في البر سواء، ويعتبر فيهم حالة المجاوزة للفارس والراجل والنبي عليه الصلاة والسلام أسهم للخيل بخيبر وكانت حصونا، لم يقاتلوا على الخيل وإنما قاتلوا رجالة، ولأن من في السفن يحتاج إلى الخيل إذا وصلوا جزيرة أو ساحلا فصار كما في البر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتقسم الغنيمة أخماسا‏:‏ أربعة منها للغانمين، للفارس سهمان، وللراجل سهم‏)‏ والأصل فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعملوا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآية، ذكر الخمس لهؤلاء، بقيت الأربعة الأخماس للغانمين بدلالة قوله‏:‏ غنمتم، فإنه يشعر باستجقاقهم لها بالاستيلاء، وقالا‏:‏ للفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه ‏(‏أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما‏)‏ ولأن الفرس يحتاج إلى من يخدمه فصاروا ثلاثة‏.‏ ولأبي حنيفة يأبى استحقاق الفرس لأنه آلة كالسلاح تركناه بالنص والنصوص مختلفة، فروي أنه أعطى للفارس ثلاثة وروي سهمين، وهو ما روي عن المقداد ‏(‏أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم له سهما ولفرسه سهما‏)‏ وروى محمد بن يعقوب بن مجمع عن أبيه عن جده قال‏:‏ ‏(‏شهت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت غنيمة خيبر على ثمانية عشر سهما، كانت الخيل ثلاثمائة فرس والرجالة ألفا ومائتين، فأعطى النبي عليه الصلاة والسلام للراجل سهما ولفرسه سهما‏)‏ فلما اختلفت النصوص، فأبو حنيفة أثبت المتفق عليه وحمل الباقي على الأصل ولأن الانتفاع بالفارس أعظم من الفرس ألا يرى أن الفارس يقاتل بانفراده ولا تأثير للفرس بانفراده؛ فلا يجوز أن يستحق الفرس أكثر من صاحبه، ولأنه لا يجوز تفضيل البهيمة على الآدمي‏.‏ وقد روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل مذهب أبي حنيفة فتعارضت روايتاه فكان ما وافق غيره أولى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا سهم لبغل ولا راحلة‏)‏ لأنه لا يصلح للكر والفر فصار كالراجل ‏(‏ولا يسهم إلا لفرس واحد‏)‏ وقال أبو يوسف‏:‏ يسهم لفرسين لما روي‏)‏ أنه عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين ‏(‏ولأن الواحد قد يعيا فيحتاج إلى الآخر، ولهما ما روي ‏'‏ أن الزبير بن العوام حضر خيبر بأفراس فلم يسهم النبي عليه الصلاة والسلام إلا لفرس واحد‏)‏ ولأن القتال على فرسين غير ممكن، والحاجة تندفع بالواحد فصار الثاني كالثالث‏.‏ وجوابه أن القياس يمنع الإسهام للخيل إلى آخر ما ذكرنا، والعتيق من الخيل والمقرف والهجين والبرذون سواء، لأن اسم الخيل ينطلق على الكل، ولأن العتيق إن اختص بزيادة القوة في الطلب والهرب، فالبرذون اختص بزيادة الثبات على حمل السلاح وكثرة الانعطاف فتساويا في المنفعة فيستويان في سبب الاستحقاق‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والمملوك والصبي والمكاتب يرضخ لهم دون سهم إذا قاتلوا، وللمرأة إن داوت الجرحى، وللذمي إن أعان المسلمين أو دلهم على عورات الكفار والطريق‏)‏ والأصل أن كل من لا يلزمه القتال في غير حالة الضرورة لا يسهم له لأنه ليس من أهله، ومن يلزمه القتال يسهم له لأنه من أهله لأنا لو أسهمنا للكل لسوينا بينهم ولا يجوز، والدليل عليه ما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يسهم للعبيد والنساء والصبيان‏.‏ وعن ابن عباس أنه يرضخ لهم‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا تجعلوهم كأهل الجهاد‏)‏ واستعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود فلم يسهم لهم؛ والمرأة عاجزة عن القتال طبعا فتقوم مداواة الجرحى منها مقام القتال لما فيه من منفعة المسلمين‏.‏ والأجير إذا قاتل‏.‏ قال محمد‏:‏ إن ترك خدمة صاحبه وقاتل استحق السهم وإلا لا شيء له، ولا يجتمع له أجر ونصيب في الغنيمة‏.‏ وجملته أن من دخل للقتال استحق السهم قاتل أو لم يقاتل ومن دخل لغير القتال لا يستحقه إلا أن يقاتل إذا كان من أهل القتال، فالسوقي والتاجر دخلا للمعاش والتجارة ولم يدخلا للقتال، فإن قاتلا صارا بالفعل كمن دخل للقتال والأجير إنما دخل لخدمة المستأجر لا للقتال، فإذا ترك الخدمة وقاتل صار كأهل العسكر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والخمس الآخر يقسم ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ومن كان من أهل القربى بصفتهم يقدم عليهم‏)‏ لما تلونا من الآية، إلا أن ذكر اسم الله تعالى للتبرك في افتتاح الكلام، إذ الدنيا والآخرة لله تعالى، ولأن الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين لم يفردوا هذا السهم ولم ينقل عنهم، ولما لم يفعلوه دل على ما ذكرناه؛ وأما سهم النبي عليه الصلاة والسلام فكان يستحقه بالرسالة، كما كان يستحق الصفي من المغنم، وهو ما كان يختاره من درع أو سيف أو جارية لنفسه فسقطا بموته جميعا إذ لا رسول بعده‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما لي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم‏)‏ وكذلك الأئمة المهديون لم يفردوه بعده عليه الصلاة والسلام، ولو بقي بعده أو استحقه غيره لصرفوه إليه‏.‏ وأما سهم ذوي القربى فإنهم كانوا يستحقونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالنصرة وبعده بالفقر لما روي ‏(‏أن جبير بن مطعم وعثمان بن عفان رضي الله عنهما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا‏:‏ يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك منهم الذي وضعك الله فيهم أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا وإنما هم ونحن منك بمنزلة فقال‏:‏ إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام‏)‏ وهذا يدل على أن الاستحقاق بغير القرابة وإنما بكونهم معه ينصرونه، ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بني المطلب وحرم بني أمية وهم إليه أقرب، لأن أمية كان أخا هاشم لأبيه وأمه والمطلب أخوه لأبيه، فلو كان الاستحقاق بالقرابة لكان بنو أمية أولى، وبهذا تبين أن المراد قرب النصرة لا قرب النسب، ولأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم قسموه على ثلاثة كما قلنا وكفى بهم قدوة، وإنما يعطي من كان منهم على صفة الأصناف الثلاثة لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يا بني هاشم إن الله تعالى كره لكم أوساخ الناس وعوضكم عنها بخمس الخمس‏)‏ والصدقة إنما حرمت على فقرائهم لأنها كانت محرمة على أغنيائهم وأغنياء غيرهم، فيكون خمس الخمس لمن حرمت الصدقة عليه‏.‏ وما روي أن عمر رضي الله عنه كان ينكح منه أيمهم ويقضي منه غارمهم، ويخدم منه عائلهم، وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير، وإذا ثبت أنه لا سهم لله تعالى وسهم النبي عليه الصلاة والسلام سقط، وسهم ذوي القربى يستحقونه بالفقر، لم يبق إلا الأصناف الثلاثة التي ذكرناها فوجب أن يقسم عليهم، ويدخل ذوو القربى فيهم إذا كانوا بصفتهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا دخل جماعة لهم منعة دار الحرب فأخذوا شيئا خمس وإلا فلا‏)‏‏.‏ اعلم أن الداخل دار الحرب لا يخلو إما إن كان لهم منعة أو لا، ولا يخلو إما إن كان بإذن الإمام أو لا، فإن كان لهم منعة فما أخذوه يخمس، سواء كان بإذن الإمام أو لم يكن لأنهم إنما أخذوا بقوة المسلمين، وقد أخذوا قهرا وغلبة فكان غنيمة؛ ولهذا يجب على الإمام أن ينصرهم، لأن في خذلهم وهنا للمسلمين فكالمأخوذ بقوة المسلمين فيخمس‏.‏ وإن لم يكن لهم منعة فإن كان بإذن الإمام خمس، لأن الإمام لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم بإمدادهم بالعسكر فكان المأخوذ بقوة المسلمين فيخمس؛ وروي أنه لا يخمس لأنهم لا يقدرون على مغالبة الكفار فلا يكون غنيمة وإنما هو تلصص، وإن كان بغير إذن الإمام لا يخمس لأنه ليس بغنيمة لأنه لم يؤخذ بقوة المسلمين، ولا يلزم الإمام نصرتهم لأنه لم يأمرهم ولا وهن على الإسلام في ترك نصرتهم فلا يخمس كالذي يأخذه التاجر واللص، وإذا لم يكن غنيمة فما أخذه كل واحد فهو له خاصة لأنه مأخوذ على أصل الإباحة كالحشيش والصيد لما مر في الشركة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويجوز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وقبل أن تضع الحرب أوزارها، فيقول الإمام‏:‏ من قتل قتيلا فلم سلبه، أو من أصاب شيئا فله ربعه‏)‏ ونحو ذلك ‏(‏وبعد الإحراز ينفل من الخمس‏)‏‏.‏ اعلم أن النفل في اللغة اسم للغنيمة وفي الشريعة‏:‏ اسم لما خصه الإمام لبعض الغزاة تحريضا لهم على القتال لزيادة قوة وجرأة منهم، ويجوز ذلك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نفل يوم بدر فقال‏:‏ ‏(‏من قتل قتيلا فله سلبه‏)‏ وعن مالك أنه قال ذلك يوم خيبر، ولما فيه من التحريض على القتال المندوب إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 65‏]‏ ولأن الشجعان يرغبون في النفل فيخاطرون بأنفسهم ويقدمون على القتال، ولهذا قلنا إنها تجوز قبل الإحراز لأنها حينئذ تفيد التحريض والحث على القتال؛ أما إذا أحرزت فقد استقر حق الغانمين فيها فلا يجوز التنفيل لما فيه من إسقاط حق البعض ولأنه لا يفيد فائدة التحريض بل إقعاد عن القتال لما فيه من إبطال حق الغانمين عن بعض الغنيمة‏.‏ قال محمد‏:‏ وما روي أنه عليه الصلاة والسلام نفل بعد الإحراز إنما كان من الخمس أو من الصفي فغلط قوم فظنوا أن النفل يجوز بعد إحراز الغنيمة، وما قاله محمد صحيح لأنه لا يجوز تصرف الإمام بعد الإحراز إلا في الخمس لما بينا، ويجوز من الخمس لأنه لا حق للغانمين فيه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وسلب المقتول‏:‏ سلاحه وثيابه وفرسه وآلته وما عليه ومعه من قماش ومال‏)‏ أما ما كان مع غلامه أو على فرس آخر من أمواله فهو غنيمة للكل، وإذا جعل الإمام السلب للقاتل انقطع حق الباقين عنه، إلا أنه يثبت ملكه بالإحراز على ما بينا، ولا يخمس السلب إلا أن يقول فله سلبه بعد الخمس فإنه يخمس، وكذلك إن جعل لهم الربع أو النصف أو الثلث مطلقا لم يخمس، فإن قال لكم الربع بعد الخمس فإنه يخمس، ولا ينبغي للإمام أن ينفل بجميع المأخوذ، لأن الغنيمة حق العسكر، فإذا نفل الجميع قطع حق الضعفاء عنها وأبطل السهام التي جعلها الله تعالى في الغنيمة، قالوا هذا هو الأولى، فإن فعله مع سرية جاز لجواز أن تكون المصلحة في ذلك، ‏(‏وإذا لم ينفل بالسلب فهو من جملة الغنيمة‏)‏ لا يستحقه القاتل، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏مال المسلم في الغنية‏]‏

‏(‏وإذا استولى الكفار على أموالنا وأحرزوها بدارهم ملكوها، فإن ظهرنا عليهم فمن وجد ملكه قيل القسمة أخذه بغير شيء وبعدها بالقيمة إن شاء، وإن دخل تاجر واشتراه فمالكه إن شاء أخذه بثمنه، وإن شاء ترك وإن وهب له أخذه بالقيمة‏)‏ لما روى ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له في المغنم قد كان المشركون أصابوه قبل ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء، وإن وجدته بعد ما قسم أخذته بالقيمة إن شئت‏)‏ ولو لم يملكوه لما أوجب القيمة‏.‏ وعن تميم بن طرفة أن العدو غلب على ناقة أو بعير لرجل، فاشتراه رجل من العدو، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏خذه بالثمن إن شئت وإلا فهم لهم‏)‏ وهذا يدل على صحة ملك أهل الحرب إذ لولا ذلك لم يلزمه الثمن‏.‏ وعن عمر وابنه وزيد بن ثابت وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم مثل مذهبنا‏.‏ وعن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ من اشترى ما أحرزه العدو فهو جائز، ولأنه يجب على جميع المسلمين حق الرد عليه، لأنه يجب عليهم استنقاذه من أيدي الكفار قلعا لهم عن العود إلى مثله وقبل القسمة قد حصل لهم بغير عوض والرد مستحق عليهم فلزمهم الدفع إليه‏.‏ أما بعد القسمة فقد حصل له بعوض وهو نصيبه من الغنيمة الذي سلم لسائر الغانمين ولم يستحق عليه بذل المال في الرد، فلذلك وجب أن يغرم له العوض الذي ليس بمستحق، وكذلك المشتري منهم حصل له بعوض ليس بمستحق عليه فلذلك رجع بالثمن‏.‏ وأما الموهوب له فلأنه ملكه بعقد فصار كالبيع، وليس فيه عوض مسمى فيأخذه بالقيمة كما بعد القسمة، فإن أسلموا عليها أو صاروا ذمة أو اشتراه حربي فأسلم أو دخل إلينا بأمان فهو لهم، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من أسلم على مال فهو له‏)‏ وإن أسلموا قبل الإحراز بدارهم ردوه على المالك الأول لعدم ثبوت ملكهم لبقاء العصمة‏.‏ وأما النقود والمكيل والموزون إن وجده قبل القسمة أخذه بغير شيء كما قلنا، وبعد القسمة لا سبيل له عليها، لأنه لو أخذها بمثلها ولا فائدة فيه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن غلب بعض أهل الحرب بعضا وأخذوا أموالهم ملكوها‏)‏ لاستيلائهم على مال مباح، فإذا ظهرنا عليها فأخذناها ملكناها كسائر أموالهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يملكون علينا مكاتبينا ومدبرينا وأمهات أولادنا وأحرارنا‏)‏ لأن الأصل في الآدمي الحرية، والحرية مقتضى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد كرمنا بني آدم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏ إلا أن الشرع جعله محلا للتمليك جزاء عن استنكافه عن طاعة الله تعالى، وذلك في حق الكافر دون المسلم، لأن الملك في الرقاب بناء على الرق ولا رق علينا، وفي المال بناء على المالية والكل فيه سواء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن أبق إليهم عبد لم يملكوه‏)‏ عند أبي حنيفة‏:‏ وقالا‏:‏ يملكونه كما إذا أخذوه من دارنا أو في الوقعة‏.‏ وله أنه لما خرج من دارنا زالت يد المولى عنه وظهرت يده على نفسه، لأن سقوط يده باعتبار يد المولى ليتمكن من الانتفاع به فصار معصوما بنفسه فلم يبق محلا للملك فلا يثبت لهم فيه ملك، وبعد ذلك إن ظهرنا عليهم أخذه المالك القديم قبل القسمة وبعدها، ويؤدي عوضه عن بيت المال لتعذر إعادة القسمة بعد تفريق الغانمين، ولا جعل على المالك لأن الغانم إنما عمل لنفسه لأنه يزعمه ملكه، وكذلك إن كان مشتري أو موهوبا يأخذه بغير شيء لأنه لم يملكه فلم يصح تصرفه فيه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا خرج عبيدهم إلينا مسلمين فهم أحرار، وكذلك إن ظهرنا عليهم وقد أسلموا‏)‏ لأنه عليه الصلاة والسلام قضى بعتق عبيد خرجوا من الطائف وقد أسلموا وقال‏:‏ ‏(‏هم عتقاء الله‏)‏ ولأنه أحرز نفسه بالتحاقه بمنعة المسلمين ويده أسبق من يد المسلمين فكانت أولى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا اشترى المستأمن عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عليه‏)‏ وقالا‏:‏ لا يعتق لأنه يجب عليه إزالته عن ملكه بأن يجبر على ذلك ولا جبر فبقي على حاله‏.‏ ولأبي حنيفة أن خلاص المسلم عن رق الكافر واجب ما أمكن، وقد تعذر جبره على ذلك، فأقمنا تباين الدارين مقام الإعتاق، كما إذا أسلم أحد الزوجين في دار الحرب أقمنا مضي ثلاث حيض مقام التفريق‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان لا يتعرض لشيء من دمائهم وأموالهم‏)‏ لأن فيه غدرا بهم وأنه منهي عنه ‏(‏فإن أخذ شيئا وأخرجه تصدق به‏)‏ لأنه ملكه بأمر محظور وهو الغدر والخيانة وسبيله التصدق به لأنه ملك خبيث، بخلاف الأسير لأنه غير مستأمن، ولم يلتزم ترك التعرض لهم فيباح له التعرض وإن أطلقوه‏.‏ ولو دخل مسلم دار الحرب فأدانه حربي أو أدان حربيا أو غصب أحدهما صاحبه ثم خرج المسلم أو استأمن الحربي لم يقض بينهما بشيء من ذلك‏.‏ أما الغصب فلأنه صار ملكا للذي أخذه لاستيلائه على مال مباح‏.‏ وأما المداينة فلأنه لا ولاية لنا عليهما وقت الإدانة والقضاء يعتمد الولاية، ولا على المستأمن وقت القضاء لأنه ما التزم أحكامنا في الماضي، وكذلك الحربيان إذا فعلا ذلك ثم خرجا مستأمنين لما بينا، ولو خرجا مسلمين قضى بينهما بالديون دون الغصب لما مر؛ أما الغصب لما مر، وأما الدين فلوقوعه صحيحا عن تراض، والولاية ثابتة لالتزامهما أحكامنا وقتئذ‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏إقامة الحربي في دار الإسلام‏]‏

‏(‏وإذا دخل الحربي دارنا بأمان يقول له الإمام‏:‏ إن أقمت سنة وضعت عليك الجزية‏)‏ وأصله أن الحربي لا يمكن الإقامة في دارنا دائما إلا بأحد معنيين‏:‏ إما الاسترقاق، أو الذمة، لأنه ربما يطلع على عورات المسلمين فيدل عليها ولا يمنع من المدة اليسيرة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ‏(‏- إلى قوله‏:‏ -‏)‏ ثم أبلغه مأمنه ‏(‏‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏ وفي منعهم قطع الجلب والميرة وسد باب التجارة، وربما منعوا تجارنا عن الدخول إليهم وفيه من الفساد ما لا يخفى، وإذا كان لا يجوز المقام الكثير ويجوز القليل، فلا بد من الحد الفاصل فقدرناه بالسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية فتكون الإقامة لمصلحة الجزية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن أقام‏)‏ يعني سنة ‏(‏صار ذميا‏)‏ لالتزامه الجزية بشرط الإمام فتوضع عليه الجزية ‏(‏ولا يمكن من العود إلى دار الحرب‏)‏ لأن عقد الذمة لا ينتقض، ولأن فيه مضرة المسلمين بجعل ولده حربا علينا وبانقطاع الجزية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وكذلك إن وقت الإمام دون السنة فأقام‏)‏ لأنه يصير ملتزما‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وكذلك إذا اشترى أرض خراج فأدى خراجها‏)‏ لأن خراج الأرض كخراج الرأس لأنه إذا أداه فقد التزم المقام في دارنا ولا يصير ذميا بمجرد الشراء لاحتمال الشراء للتجارة؛ ولو أجرها من مسلم وأخذ الإمام الخراج من المستأجر ورأى ذلك على الزارع لم يصر ذميا، لأن الإمام لم يوجب عليه الخراج فلم يصر ذميا بملك الأرض، ويصير ذميا حين وجب عليه الخراج، فتؤخذ منه الجزية بعد سنة من يوم وجب عليه الخراج لأنه حينئذ صار ذميا قال‏:‏ ‏(‏وإذا تزوجت الحربية بذمي صارت ذمية‏.‏ ولو تزوج حربي بذمية لا يصير ذميا‏)‏ لأنها التزمت المقام معه ولم يلتزم هو لأنه يطلقها ويعود‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والجزية ضربان‏:‏ ما يوضع بالتراضي فلا يتعدى عنها‏)‏ لأنها وجبت بالرضى، فلا يجب غير ما رضي به، ولأن فيه ترك الوفاء بالعقد، وقد صالح عليه الصلاة والسلام نصارى نجران على ألف ومائتي حلة وكانت جزية بالصلح ‏(‏وجزية يضعها الإمام إذا غلب الكفار وأقرهم على ملكهم، فيضع على الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما، وعلى الفقير اثني عشر درهما، وتجب في أول الحول، وتؤخذ في كل شهر بقسطه‏)‏ هكذا روي عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من غير نكير من غيرهم فكان إجماعا، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ‏:‏ ‏(‏خذ من كل حالم وحالمة دينارا أو عدله معافر‏)‏ فهو محمول على الصلح، ألا ترى أنه قال وحالمة، ولا جزية على النساء إلا في المصالحة كما صالح عمر رضي الله عنه نصارى بني تغلب على ما قررناه في الزكاة‏.‏ واختلفوا في حد الغني والمتوسط والفقير، والمختار أن ينظر في كل بلد إلى حال أهله وما يعتبرونه في ذلك، فإن عادة البلاد في ذلك مختلفة، وإنما قلنا إنها تجب في أول الحول لأنها وجبت لإسقاط القتل فتجب للحال كالواجب بالصلح عن دم العمد، ولأن المعوض قد سلم لهم فوجب أن يستحق العوض عليهم كالثمن وقسطناها على الأشهر تخفيفا وليمكنه الأداء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتوضع على أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم‏)‏ أما أهل الكتاب فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وأما المجوس فلما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ ما أصنع بهم‏؟‏ فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول‏:‏ ‏(‏سنة بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم‏)‏ فوضع عليهم الجزية‏.‏ وأما عبدة الأوثان من العجم فلأنه يجوز استرقاقهم فيجوز أخذ الجزية من رجالهم كالكتابي والمجوسي، أو لأنه لما جاز إبقاؤهم على الكفر بأحد الشيئين وهو الرق جاز بالآخر وهو الجزية‏.‏ ‏(‏ولا يجوز‏)‏ أخذها من عبدة الأوثان ‏(‏من العرب و‏)‏ لا من ‏(‏المرتدين‏)‏ لأنه لا يجوز إبقاؤهم على الكفر بالرق فكذا بالجزية، لأن كفرهم أقبح وأغلظ‏.‏ أما العرب فإنهم بالغوا في أذاه صلى الله عليه وسلم بالتكذيب وإخراجه من وطنه، فتغلظت عقوبتهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام يوم حنين‏:‏ ‏(‏لو كان يجري على عربي رق لكان اليوم، وإنما الإسلام أو السيف‏)‏‏.‏ وأما المرتد فلأنه كفر بعد إسلامه واطلاعه على محاسن الإسلام‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ ويسترق نساء العرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استرقهم كما استرق أهل الكتاب، ولا يجبرون على الإسلام‏.‏ وأما المرتدة فتجبر على ما يأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا جزية على صبي، ولا امرأة، ولا مجنون، ولا عبد، ولا مكاتب، ولا زمن، ولا أعمى، ولا مقعد، ولا شيخ كبير‏)‏ وأصله أن الجزية شرعت جزاء عن الكفر وحملا له على الإسلام فتجري مجرى القتل، فمن لا يعاقب بالقتل لا يؤاخذ بالجزية، فإذا حصل الزاجر في حق المقاتلة وهم الأصل انزجر التبع، أو نقول‏:‏ وجبت لإسقاط القتل، فمن لا يجب قتله لا توضع عليه الجزية، وهؤلاء لا يجوز قتلهم فلا جزية عليهم، ولأن عمر رضي الله عنه لم يضع على النساء جزية‏.‏ وعن أبي يوسف أنها تجب على الزمن والأعمى والشيخ الكبير إذا كان لهم مال، ولأنها وجبت على الفقير المعتمل، ووجود المال أكثر من العمل، ولأنه يجوز قتل من كان له رأي في الحرب وكان له مال يعين به فتجب عليه الجزية كذلك قال‏:‏ ‏(‏ولا‏)‏ على ‏(‏الرهابين المنعزلين، ولا فقير غير معتمل‏)‏ والمراد الرهابين الذين لا يقدرون على العمل والسياحين ونحوهم‏.‏ أما إذا كانوا يقدرون على العمل فيجب عليهم وإن اعتزلوا وتركوا العمل لأنهم يقدرون على العمل فصاروا كالمعتملين إذا تركوا العمل فتؤخذ منهم الجزية كتعطيل أرض الخراج‏.‏ وأما الفقير الغير المعتمل، فلأن عمر رضي الله عنه شرط كونه معتملا وأنه دليل عدم وجوبها على غير المعتمل، ولأنه غير مطيق للأداء فيعتبر بالأرض التي لا تصلح للزراعة اعتبارا لخراج الرأس بخراج الأرض؛ ولا جزية على الفقير التغلبي لما سبق في الزكاة من صلحهم أنه يؤخذه منهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين، ولا شيء على الفقير المسلم؛ ولو مرض الذمي جميع السنة لا جزية عليه، لأنها تجب على الصحيح المعتمل لما بينا؛ ولو مرض أكثر السنة سقطت أيضا إقامة للأكثر مقام الكل، وكذلك لو مرض نصف السنة لأنها عقوبة فيترجح المسقط؛ ولو أدرك الصبي وأفاق المجنون وعتق العبد وبرئ المريض قبل وضع الإمام الجزية وضع عليهم، وبعد وضع الجزية لا يوضع عليهم، لأن المعتبر أهليتهم دون الوضع، لأن الإمام يخرج في تعرف حالهم في كل وقت ولم يكونوا أهلا وقت الوضع، بخلاف الفقير إذا أيسر بعد الوضع حيث يوضع عليهم، لأن الفقير أهل للجزية، وإنما سقطت عنه للعجز وقد زال‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتسقط بالموت والإسلام‏)‏ لأنها شرعت للزجر عن الكفر وحملا على الإسلام، ولا حاجة إلى ذلك بعد الموت والإسلام لما بينا أنها بدل عن القتل، وقد سقط القتل عنهما ولأنها وجبت على وجه الصغار، وقد تعذر ذلك بالموت والإسلام‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا اجتمعت حولان تداخلت‏)‏ فلا تجب إلا واحدة، وقالا‏:‏ تؤخذ لجميع ما مضى، لأن مضي المدة لا تأثير له في إسقاط الواجب كالديون‏.‏ ولأبي حنيفة أنها عقوبة على الكفر، والأصل في

العقوبات التداخل كالحدود، أو لأنها للزجر، والزجر عن الماضي محال ‏(‏وينبغي أن تؤخذ الجزية على وصف الذل والصغار‏)‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ فيكون الآخذ قاعدا والذمي قائما بين يديه ويؤخذ بتلبيبه ويهزه هزا ‏(‏ويقول له‏:‏ أعط الجزية يا عدو الله‏)‏ ولا تجري فيها النيابة لأنها عقوبة، وعندهما تجوز النيابة لأنها للزجر بتنقيص المال، وتنقيص المال يحصل به وبنائبه، ويجوز تعجيل الجزية لسنتين وأكثر كالخراج؛ فلو عجل لسنتين ثم أسلم رد خراج سنة واحدة لأنه أداه قبل الوجوب، ولا يرد خراج السنة الأولى إذا مات أو أسلم بعد دخولها لأنه أداه بعد الوجوب‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا ينتقض عهدهم إلا باللحاق بدار الحرب، أو إن تغلبوا على موضع فيحاربوننا فتصير أحكامهم كالمرتدين، إلا أنه إذا ظفرنا بهم نسترقهم ولا نجبرهم على الإسلام‏)‏ لأنهم إذا صاروا حربا علينا فلا فائدة في عقد الذمة فيصيرون كالمرتدين ومالهم كمالهم إلا أنهم يسترقون ولا يجبرون على قبول الذمة، لأن المقصود أن يصيروا من أهل دارنا سلما لنا وأنه يحصل بالاسترقاق؛ والمقصود من المرتدة العود إلى الإسلام ولا تحصل إلا بالجبر، فإن عادوا إلى الذمة أخذوا بحقوق العباد التي كانت عليهم قبل النقض كما في الردة، ولا يؤاخذون بما أصابوا في المحاربة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويؤخذ أهل الجزية بما يتميزون به عن المسلمين في ملابسهم ومراكبهم‏)‏ قال أبو حنيفة‏:‏ ينبغي أن لا يترك أحد من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في لباسه ومركبه ولا في هيئته‏.‏ والأصل في ذلك أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد يأمرهم أن يأمروا أهل الذمة أن يختموا رقابهم بالرصاص وأن يظهروا مناطقهم وأن يحلقوا نواصيهم ولا يتشبهوا بالمسلمين في أثوابهم‏.‏ وروي أنه صالح أهل الذمة على أن يشدوا في أوساطهم الزنار، وكان بحضرة من الصحابة من غير نكير، ولأن المسلم يجب تعظيمه وموالاته وبدايته بالسلام والتوسعة عليه في الطريق والمجالس، والكافر يعامل بضد ذلك‏.‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا تبدؤوهم بالسلام وألجئوهم إلى أضيق الطرق‏)‏ فإذا لم يتميزوا عن المسلمين فيما ذكرنا ربما عظمنا الكافر وواليناه وبدأناه بالسلام ظنا منا أنه مسلم وذلك لا يجوز، فوجب تمييزهم بما ذكرنا احترازا عن ذلك، ولأن السماء يستدل بها على حال الإنسان، قال تعالى‏:‏‏)‏ تعرفهم بسيماهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏‏.‏ وقالت الفقهاء‏:‏ من رأينا عليه زي الفقر جاز لنا دفع الزكاة إليه، ويؤخذ كل واحد أن يجعل في وسطه كستيجا مثل الخيط الغليظ من الشعر أو الصوف ويكون غليظا ليظهر للرائي، ولا يلبسوا العمائم ويلبسوا قميصا خشنا جيوبهم على صدورهم، وأن يلبسوا القلانس الطوال المضربة، وأن يركبوا السروج التي على قربوسه مثل الرمانة‏.‏ وفي الجامع الصغير كهيئة الأكف، وأن يجعلوا شراك نعالهم مثلنا ولا يحذوها مثل المسلمين، ولا يلبسوا طيالسة ولا أردية مثل المسلمين ‏(‏ولا يركبون الخيل إلا لضرورة‏)‏ فإن دعت يركبون على ما وصفنا، وينزلون في مجامع المسلمين ‏(‏ولا يحملون السلاح‏)‏ لأنهم أعداء المسلمين، ويمنعون من لباس يختص به أهل الشرف والعلم والدين، ويجب أن تميز نساؤهم من نساء المسلمين حال المشي في الطرق والحمامات، فيجعل في أعناقهن طوق الحديد، ويخالف إزارهن إزار المسلمات، ويكون على دورهم علامات تميز بها عن دور المسلمين لئلا يقف عليهم السائل فيدعو لهم بالمغفرة‏.‏ فالحاصل أنه يجب تمييزهم بما يشعر بذلهم وصغارهم وقهرهم بما يتعارفه كل بلدة وزمان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا تحدث كنيسة ولا صومعة ولا بيعة في دار الإسلام‏)‏ قال عليه الصلاة والسلام ‏(‏لا خصاء في الإسلام ولا كنيسة‏)‏ والمراد إحداث الكنيسة في دار الإسلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لا خصاء‏)‏ هو الاعتزال عن النساء كما يفعله الرهبان فكأنه خصاء معنى ‏(‏وإذا انهدمت القديمة أعادوها‏)‏ لأنهم أقروا عليها، والبناء لا يتأبد، ولا بد من خرابه، فلما أقرهم عليها فقد التزم لهم إعادتها، وليس لهم أن يحولوها لأنه إحداث لا إعادة، ثم قيل إنما يمنعون في الأمصار، أما القرى التي لا تقام فيها الجمع والحدود لا يمنعون من ذلك ولا من بيع الخمر والخنزير فيها، وهذا في القرى التي أكثرها ذمة، أما قرى المسلمين فلا يجوز ذلك‏.‏ وأما أرض العرب فيمنعون من ذلك في المصر والقرى‏.‏ قال محمد‏:‏ لا ينبغي أن يترك في أرض العرب كنيسة ولا بيعة، ولا يباع فيها خمر وخنزير مصرا كانت أو قرية، ويمنع المشركون أن يتخذوا أرض العرب مسكنا أو وطنا، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا يجتمع دينان في أرض العرب‏)‏ ويمنعون من إظهار الفواحش والربا والمزامير والطنابير والغناء وكل لهو محرم في دينهم، لأن هذه الأشياء كبائر في جميع الأديان لم يقروا عليها بالأمان، وإن حضر لهم عيد لا يخرجون فيه صلبانهم، وليصنعوا ذلك في كنائسهم ولا يخرجوه من الكنائس حتى يظهر في المصر لأنه معصية وفي إظهاره إعزاز للكفر، وأما الكنائس فلا يمنعون منه كما لا يمنعون من إظهار الكفر فيها، وعلى هذا ضرب الناقوس يفعلونه في الكنائس لما قلنا، ولا يمكنون من إظهار بيع الخمر والخنزير في أمصار المسلمين لأنه معصية فينمع منه كسائر المعاصي، وكذلك في قرى المسلمين لما بينا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويؤخذ من نصارى بني تغلب ضعف زكاة المسلمين، ويؤخذ من نسائهم، ويضعف عليهم العشر‏)‏ لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن يأخذ منهم ضعف زكاة المسلمين على ما قررناه في الزكاة، فلهذا يؤخذ من نسائهم دون صبيانهم، لأن الزكاة تجب على نساء المسلمين دون صبيانهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومولاهم في الجزية والخراج كمولى القرشي‏)‏ لأن الصلح وقع مع التغلبي تخفيفا فلا يلحق به المولى، ألا ترى أن الجزية توضع على مولى المسلم إذا كان نصرانيا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتصرف الجزية والخراج وما يؤخذ من بني تغلب ومن الأراضي التي أجلى أهلها عنها وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام في مصالح المسلمين‏)‏ لأنه مال وصل إلى المسلمين بغير قتال فيكون لبيت مالهم معدا لمصالحهم، وذلك ‏(‏مثل أرزاق المقاتلة وذراريهم، وسد الثغور، وبناء القناطر والجسور، وإعطاء القضاة والمدرسين والعلماء والمفتين والعمال قدر كفايتهم‏)‏ أما سد الثغور وبناء القناطر والجسور فمصلحة عامة؛ وأما أرزاق من ذكر فلأنهم يعملون للمسلمين فيجب كفايتهم عليهم؛ والمقاتلة يقاتلون لنصرة الإسلام والمسلمين وإعزاز كلمة الدين ولتكون كلمة الله هي العليا، فيجب على الإمام والمسلمين كفايتهم وكفاية ذريتهم، إذ لو لم يكفوا لاشتغلوا بالاكتساب للكفاية فلا يتخلون للقتال‏.‏ وأما القضاة والباقون فقد حبسوا أنفسهم لمصالح المسلمين لفصل خصوماتهم وبيان محاكماتهم وتعليمهم أحكام شريعتهم وما يأتونه ويذرونه في أقوالهم وأفعالهم، وما يتعلق به من مصالح دينهم ودنياهم، وذلك من أهم مصالحهم وأعمها، فكانت كفايتهم عليهم لقيام مصالحهم أصله القاضي والزوجة على ما عرف‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏أرض العشر‏]‏

‏(‏أرض العرب أرض عشر، وهي ما بين العذيب إلى أقصى حجر باليمن بمهرة إلى حد الشام‏)‏ لأن النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين لم يضعوا الخراج على أرض العرب ولأن من شرط الخراج أن يقر أهلها على الكفر، ومشركو العرب لا يقرون على الكفر على ما قدمنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والسواد أرض خراج، وهي ما بين العذيب إلى عقبة حلوان، ومن العلث أو الثعلبية إلى عبادان‏)‏ لأنه يجوز إقرارهم على الكفر فقد وجد شرط الخراج، ولأن عمر رضي الله عنه فتح سواد العراق ووضع عليه الخراج بمحضر من الصحابة، وأجمعت الصحابة على وضع الخراج على الشام، وكذلك وضع عمر رضي الله عنه على مصر الخراج حين فتحها عمرو بن العاص‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأرض السواد مملوكة لأهلها يجوز تصرفهم فيها‏)‏ لما بينا أن الإمام إذا فتح بلدة قهرا له أن يقر أهلها عليها ويضع عليهم الخراج، فإذا أقرهم عليها بقيت مملوكة لهم فيجوز تصرفهم فيها بيعا وشراء وإجارة وغير ذلك كسائر الملاك والأملاك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وكل أرض أسلم أهلها عليها أو فتحت عنوة وقسمت بين الغانمين فهو عشرية‏)‏ لأن وضع العشر على المسلم ابتداء أليق به من الخراج لما فيه من معنى العبادة على ما بيناه في الزكاة، ولأنه أخف لأنه يتعلق بالخارج، فإن أخرجت الأرض شيئا وجب عشرة وإلا فلا ‏(‏وما فتح عنوة وأقر أهلها عليها أو صالحهم فهي خراجية سوى مكة شرفها الله تعالى‏)‏ لأن وظيفة الأرض في الأصل الخراج، وإنما صرنا إلى العشر في حق المسلم تخفيفا عليه وتكرمة له وفيما عدا ذلك تبقى خراجية، ولأن وضع الخراج على الكافر ابتداء أليق به؛ وأما مكة فالنبي عليه الصلاة والسلام خصها، وذلك لأنه حيث افتتحها عنوة تركها ولم يضع عليها الخراج‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن أحيا مواتا بغير بحيزها‏)‏ فإن كانت تقرب من أرض العشر فعشرية، وإن كانت تقرب من أرض الخراج فخراجية، وهذا عند أبي يوسف، لأن ما يقرب من الشيء يعطى حكمه‏:‏ كفناء الدار وحريم البئر والشجرة ونحو ذلك؛ والقياس في البصرة الخراج لأنها من حيز أرضه، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم وظفوا عليها العشر فترك القياس لذلك‏.‏ وقال محمد‏:‏ إن أحياها بماء العشر فعشرية، وإن أحياها بماء الخراج فخراجية، لأن الخراج لا يوظف على المسلم إلا بالتزامه، فإذا ساق إليها ماء الخراج فقد التزم الخراج، وإلا فلا؛ وكل أرض خراج انقطع عنها ماء الخراج فسقيت بماء العشر فهي عشرية، وكل أرض عشرية انقطع عنها ماء العشر فسقيت بماء الخراج فخراجية اعتبارا بالماء إذ هو سبب النماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يجتمع عشر وخراج في أرض واحدة‏)‏ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم‏)‏ ولم ينقل عن أحد من أئمة العدل والجور ذلك فكفى بهم حجة، ولأن العشر يجب في أرض فتحت قهرا، والخراج في أرض أقر أهلها عليها وأنهما متنافيان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يتكرر الخراج بتكرر الخارج والعشر يتكرر‏)‏ لأن عمر رضي الله عنه لم يوظف الخراج مكررا، ولأن الخراج للأرض كالأجرة، فإذا أداها فله أن ينتفع بها ما شاء ويزرعها مرارا‏.‏ أما العشر فمعناه أن يأخذ عشر الخارج ولا يتحقق ذلك إلا بوجوبه في كل خارج‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا غلب الماء على أرض الخراج أو انقطع عنها أو أصاب الزرع آفة فلا خراج‏)‏ وكذلك إن منعه إنسان من الزراعة، لأن المعتبر في الخراج النماء التقديري وهو التمكين من الزراعة كما في الأرض المستأجرة، وفي العشر حقيقة الخارج، وفيما إذا أصاب الزرع آفة فات النماء التقديري في بعض السنة، وكونه ناميا في جميع السنة شرط كما في الزكاة، وإن أخرجت الأرض مثلي الخراج فصاعدا يؤخذ منه جميع الخراج، وإن أخرجت قدر الخراج يؤخذ نصفه تحرزا عن الإجحاف بأحد الجانبين‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن عطلها مالكها فعليه خراجها‏)‏ لأن الخراج متعلق بالتمكين من الزراعة لا بحقيقة الخارج والتمكين ثابت وهو الذي فوّته، ولو انتقل إلى أخس الأمرين من غير عذر فعليه خراج الأعلى‏.‏ قالوا‏:‏ ولا يفتي بهذا كيلا تتجرى الظلمة على أموال الناس‏.‏ واعلم أن الخراج كان وظيفة مشروعة في الجاهلية كفاية للمقاتلة وكانت رسم كسرى، فصارت شريعة لنا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهو ما روي أن عمر رضي الله عنه لما فتح سواد العراق تركها على أربابها وبعث عثمان بن حنيف ليمسح الأراضي وجعل عليها حذيفة بن اليمان مشرفا فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب فوظف على كل جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة درهما وقفيزا مما يزرع، وعلى كل جريب رطبة خمسة دراهم وعلى كل جريب كرم عشرة دراهم وذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير فكان إجماعا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والخراج‏)‏ نوعان ‏(‏مقاسمة فيتعلق بالخارج كالعشر‏)‏ وهو أن يمنّ الأمام على أهل بلدة فتحها فتجعل على أراضيهم مقدار ربع الخارج أو ثلثه أو نصفه، ولا يزيد على النصف لأن التقدير ورد بالنصف وهو ماروي أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطى خيبر لأهلها معاملة بالنصف، وحكمه حكم العشر إلا أنه يوضع موضع الخراج لأنه خراج حقيقة ‏(‏و‏)‏ خراج ‏(‏وظيفة ولا يزاد على ما وظفه عمر رضي الله عنه، وهو على كل جريب يبلغه الماء صاع ودرهم، وجريب الرطبة خمسة دراهم، والكرم والنخل المتصل عشرة دراهم‏)‏ على ما روينا، ولأن المؤن متفاوتة، والوظيفة تتفاوت بتفاوت المؤنة، ألا ترى أن الواجب فيما سقته السماء العشر، وما سقي بالدولاب نصف العشر، والكرم خفيف المؤن، والمزارع أكثر، والرطبة بينهما، فوظف على كل نوع بقدره كما تقدم‏.‏ ‏(‏وما لم يوظفه عمر رضي الله عنه يوضع عليه بحسب الطاقة‏)‏ كالزعفران وغيره ‏(‏ونهاية الطاقة نصف الخارج فلا يزاد عليه، وينقص منه عند العجز‏)‏‏.‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق؛ قالا‏:‏ لا ولو زدنا لأطاقت، وأنه دليل جواز النقصان، ولا تجوز الزيادة على ما وظفه عمر رضي الله عنه في سواد العراق لأنه خلاف إجماع الصحابة، وما وظفه إمام آخر في أرض كتوظيف عمر رضي الله عنه باجتهاد فلا ينقص باجتهاد مثله؛ ولو وظف على أرض ابتداء تجوز الزيادة على ما وظفه عمر رضي الله عنه بقدر الطاقة عند محمد، لأنه إنشاء حكم باجتهاد وليس فيه نقض حكم، ولا يجوز عند أبي يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة، لأن الخراج مقدر شرعا، واتباع إجماع الصحابة واجب لأن المقادير لا تعرف إلا توقيفا، والتقدير يمنع الزيادة لأن النقصان يمتنع، فتعين منع الزيادة لئلا يخلو التقدير عن الفائدة، والجريب الذي فيه أشجار مثمرة ملتفة لا يمكن زراعتها‏.‏ قال محمد‏:‏ يوضع عليه بقدر ما يطيق لأنه لم يرد عن عمر في البستان تقدير فكان مفوضا إلى الإمام، وقال أبو يوسف لا يزاد على الكرم لأن البستان بمعنى الكرم فالوارد في الكرم وارد فيه دلالة، وإن كان فيه أشجار متفرقة فهي تابعة للأرض، ألا يرى أنه يتبعها في البيع من غير تسمية‏.‏ وعن محمد أن الخراج يجب عند بلوغ الغلة على اختلاف البلدان لأنه كالبدل عن الخارج، وله أن يحول بينه وبين غلته حتى يستوفي الخراج بقدر ما يستوفي رب الأرض الخارج تحقيقا للمساواة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا اشترى المسلم أرض خراج، أو أسلم الذمي أخذ منه الخراج‏)‏ لأنه وظيفة الأرض فلا يتغير بتغير المالك لما مر في الزكاة؛ ومن عجز عن زرع أرض وعن الخراج تؤجر أرضه ويؤخذ الخراج من الأجرة فإن لم يكن من يستأجرها باعها الإمام وأخذ الخراج ورد عليه الباقي بالإجماع، لأن فيه ضررا خاصا لنفع عام فيجوز‏.‏ وعن أبي حنيفة في النوادر‏:‏ لو هرب أهل الخراج إن شاء الإمام عمرها من بيت المال والغلة للمسلمين، وإن شاء دفعها إلى قوم على شيء وكان ما يأخذه للمسلمين لأن فيه حفظ الخراج على المسلمين والملك على صاحبه، فإن لم يجد من يزرعها باعها على ما بينا‏.‏ ومن أدى العشر والخراج إلا مستحقه بنفسه فللإمام أخذه منه ثانيا لأن حق الأخذ له؛ ولو لم يطلب الإمام الخراج يتصدق به على الفقراء، لأنه إذا لم يطلبه تعذر الأداء إليه فبقي طريقه التصدق ليخرج عن العهدة؛ ولو ترك السلطان الخراج أو العشر لرجل جاز في الخراج دون العشر عند أبي يوسف‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا يجوز فيهما لأنهما فيء لجماعة المسلمين‏.‏ ولأبي يوسف أن له حقا في الخراج فصح تركه وهو صلة منه، والعشر حق الفقراء على الخلوص فلا يجوز تركه، وعليه الفتوى‏.‏ الصاع‏:‏ أربعة أمنان‏.‏ والمنّ‏:‏ مائتان وستون درهما‏.‏ والدرهم من أجود النقود‏.‏ والجريب‏:‏ ستون ذراعا في ستين بذراع الملك كسرى، وأنه يزيد على ذراع العامة بقبضة‏.‏ وقيل هذا جريب سواد العراق؛ فأما جريب أرض كل بلدة ما هو المتعارف عندهم‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في ارتداد المسلم‏]‏

‏(‏وإذا ارتد المسلم والعياذ بالله‏)‏ عن الإسلام ‏(‏يحبس ويعرض عليه الإسلام وتكشف شبهته، فإن أسلم وإلا قتل‏)‏ أما حبسه وعرض الإسلام عليه فليس بواجب لأنه بلغته الدعوة؛ والكافر إذا بلغته الدعوة لا تجب أن تعاد عليه فهذا أولى، لكن يستحب ذلك، لأن الظاهر إنما ارتد لشبهة دخلت عليه أو ضيم أصابه فيكشف ذلك عنه ليعود إلى الإسلام وهو أهون من القتل‏.‏ وروي مثل ذلك عن عمر، وقيل إن طلب التأجيل أجّل ثلاثة أيام وإلا قتل للحال لأنه متعنت‏.‏ وأما وجوب قتله فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تقاتلونهم أو يسلمون‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏ والمراد أهل الردة نقلا عن ابن عباس وجماعة من المفسرين، وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏من بدّل دينه فاقتلوه‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث‏)‏ الحديث، والحر والعبد سواء لإطلاق ما ذكرنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن قتله قاتل قبل العرض لا شيء عليه‏)‏ لأنه مستحق للقتل بالكفر فلا ضمان عليه، ويكره له ذلك لما فيه من ترك الغرض المستحب، ولما فيه من الافتيات على الإمام‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإسلامه أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ عن جميع الأديان سوى دين الإسلام أو عما انتقل إليه‏)‏ لحصول المقصود بذلك، فإن عاد فارتد فحكمه كذلك وهكذا أبدا، لأنا إنما نحكم بالظاهر، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏هلا شققت عن قلبه‏)‏ وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من المنافقين ظاهر الإسلام، ولأن توبته قبلت أول مرة بإظهار الإسلام وأنه موجود فيما بعد فتقبل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويزول ملكه عن أمواله زوالا مراعى، فإن أسلم عادت إلى حالها‏)‏ وقالا‏:‏ هي على ملكه لأنه مكلف محتاج فيبقى ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص، وله أنه كافر مقهور تحت أيدينا مباح الدم، وأنه يوجب زوال الملك والمالكية، إلا أنه يرتجى إسلامه وهو مدعوّ إليه فيوقف أمره فإن عاد صار كأن لم يزل مسلما وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب استقر كفره فعمل السبب عمله‏.‏ اعلم أن تصرفات المرتد أربعة أقسام‏:‏ نافذ بالاتفاق كالطلاق والاستيلاد وقبول الهبة وتسليم الشفعة والحجر على عبده المأذون لأنه لا يفتقر إلى تمام الولاية ولا إلى حقيقة الملك‏.‏ وباطل بالاتفاق كالنكاح والذبيحة لأنه يعتمد الملة ولا ملة للمرتد‏.‏ وموقوف بالإجماع كالمفاوضة لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة، فإن أسلم حصلت المساواة وإلا بطلت فيقوف لذلك‏.‏ ومختلف فيه كالبيع والشراء والعتق والتدبير والكتابة والهبة والوصية وقبض الديون فهي موقوفة عند أبي حنيفة إن أسلم نفذت، وإن مات أو قتل لحق بدار الحرب بطلت‏.‏ وعندهما هي جائزة، وهو بناء على اختلافهم في ملكه على ما بينا‏.‏ لهما، أنه أهل للتصرفات لكونه مخاطبا وملكه ثابت لما بينا فيصح تصرفه إلا عند أبي يوسف يجوز كما يجوز من الصحيح، لأن الظاهر عوده إلى الإسلام بزوال شبهته‏.‏ وعند محمد يجوز من المريض من الثلث، لأن ردته تفضي إلى القتل غالبا، لأن من انتحل نحلة قلما يتركها سيما وقد أعرض عما نشأ عليه وألفه، وله أن ملكه موقوف على ما تقدم، وتصرفه بناء عليه فيتوقف، وإباحة ملكه توجب خللا في الأهلية فلذلك توقف تصرفاته‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه ونقلت أكسابه في الإسلام إلى ورثته المسلمين، وأكساب الردة فيء‏)‏‏.‏ اعلم أن باللحاق بدار الحرب يصير من أهل الحرب، وهم أموات في حق أحكام الإسلام لانقطاع الولاية وعدم الإلزام كما انقطعت عن الميت الحقيقي، إلا أنه لا يستقر اللحاق إلا بالقضاء لاحتمال العود، ولأن انقطاع الحقوق باللحاق مختلف فيه فيتوقف حكمه على القضاء كغيره من المجتهدات، فإذا قضى به ثبت موته الحكمي فيترتب عليه أحكام الموت وهي ما ذكرنا كالموت الحقيقي، ومكاتبه يؤدي بدل الكتابة إلى ورثته كما إذا مات حقيقة‏.‏ وأما الميراث فكسب الإسلام لورثته المسلمين بإجماع الصحابة هكذا قضى عليّ رضي الله عنه في مال المستورد والعجلي حين قتله مرتدا من غير نكير من أحد من الصحابة‏.‏ وعن ابن مسعود مثله، وكسب الردة فيء‏.‏ وقالا‏:‏ لهم أيضا بناء على أنه ملكه ثابت عندهما في الكسبين، ويستند إلى ما قبل الردة حتى يكون توريث المسلم من المسلم، لأن الردة سبب الموت‏.‏ وله أن الاستناد ممكن في كسب الإسلام لا في كسب الردة لأنه وجد بعدها فلا يتصور إسناده إلى ما قبلها ولأنه كسب مباح الدم فيكون فيئا كالحربي، ثم في رواية عن أبي حنيفة، وهو قول زفر يعتبر ورثته يوم ارتد لأنه سبب الموت، وعنه وهو قول محمد وهو ظاهر الرواية يوم الموت أو اللحاق لأنه سبب الإرث والقضاء لتقريره لقطع الاحتمال، وفي رواية وهو قول أبي يوسف يوم القضاء، لأنه به يتقرر الاستحقاق وبه يصير اللحاق موتا وتبطل وصاياه عند أبي حنيفة، لأن ردته كالرجوع عنها‏.‏ وقالا‏:‏ تبطل وصاياه في القرب لا غير‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتقضى ديون الإسلام من كسب الإسلام، وديون الردة من كسبها‏)‏ وقالا‏:‏ تقضى ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه عندهما‏.‏ وله أنه يقضى كل دين مما اكتسبه في تلك الحالة ليكون الغرم بالغنم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن عاد مسلما فما وجده في يد وارثه من ماله أخذه‏)‏ لأنه إذا عاد مسلما فقد عاد حيا فعادت الحاجة والخلافة إنما تثبت للوارث لاستغنائه، فإذا عادت حاجته تقدم على الوارث وجميع ما فعله القاضي إلا ما ذكرنا ولأنه ملكه بغير عوض فجاز أن يثبت له حق الرجوع ما دام على ملكه كالهبة، ولا رجوع له في شيء زال عن ملك الوارث كالموهوب، وسواء زال بما يلحقه الفسخ كالبيع ونحوه، أو ما لا يلحقه الفسخ كالعتق؛ وكذا لا سبيل له على من حكم الحاكم بعتقه لأنه لا يلحقه الفسخ؛ وكذا المكاتب إذا عتق بالأداء إلى الورثة ويأخذ البدل من الورثة إن كان قائما كغيره من الأموال، ولو لم يقضِ القاضي بشيء حتى رجع مسلما لا يثبت شيء مما ذكرنا لأنه ما لم يتصل القضاء باللحاق لا يحكم بموته‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإسلام الصبي العاقل وارتداده صحيح، ويجبر على الإسلام ولا يقتل‏)‏ وكذا إذا بلغ يجبر ولا يقتل‏.‏ وجملته أن إسلام الصبي الذي يعقل الإسلام وردّته صحيحان‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إسلامه صحيح وردته لا تصح‏.‏ وقال زفر‏:‏ لا يصحان لأن طريقهما الأقوال، وأقواله غير صحيحة لا يتعلق بها حكم كالطلاق والعتاق والإقرار والعقود‏.‏ ولأبي يوسف أن الإسلام فيه نفعه والكفر فيه ضرره، ويجوز تصرفه النافع كقبول الهبة ولا يجوز الضار كالهبة، ولهذا قلنا إن الولي يجيز تصرفه النافع دون الضار‏.‏ ولهما أن عليا رضي الله عنه أسلم وهو صبي، وصحح النبي عليه الصلاة والسلام إسلامه وافتخر به فقل‏:‏ سبقتكمو إلى الإسلام طرا صغيرا ما بلغت أوان حلم

ولأن الإسلام يتعلق به كمال العقل دون البلوغ، بدليل أن من بلغ غير عاقل لم يصح إسلامه، والعقل يوجد من الصغير كما يوجد من الكبير، ولأنه أتى بحقيقة الإسلام وهو التصديق مع الإقرار، لأن الإقرار طائعا دليل الإعتقاد والحقائق لا ترد، وإذا صار مسلما فإذا ارتد تصح كالبالغ، ولأن الإسلام عقد والردة حله، وكل من ملك عقدا ملك حله كسائر العقود، ولأن من كان بيده الإعتقاد تصور منه تبديله، فإذا اقترن به الاعتراف دل على تبديل الإعتقاد كالإسلام؛ وإذا ثبتت ردته ترتب عليه أحكام الردة لا يرث ولا يورث وتبين امرأته، ولا يصلى عليه لو مات مرتدا ويجبر على الإسلام، لأنا لما حكمنا بإسلامه لا يترك على الكفر كالبالغ، ولأن بالجبر يندفع عنه مضرة حرمان الإرث وبينونة الزوجة وغير ذلك، وإنما لا يقتل لأن كل من لا يباح قتله بالكفر الأصلي لا يباح بالردة لأن إباحة القتل بناء على أهلية الحراب على ما عرف ولأن القتل عقوبة وهو ليس من أهلها ولأن القتل لا يتعلق بفعل الصبي كالقصاص‏.‏ وإذا كان الصبي لا يعقل لا يصح إسلامه ولا ارتداده وكذلك المجنون لأن الإسلام والكفر يتبعان العقل على ما بينا، وكذلك من غلب على عقله بوجه من الوجوه كالمبرسم والمعتوه ومن سقي شيئا فزال عقله لما بينا، ومن يجنّ ويفيق ففي حال جنونه له أحكام المجانين‏.‏ وفي حال إفاقته أحكام العقلاء، وردة السكران ليست بشيء استحسانا، وإسلامه صحيح لأنه يحتمل أن يكون عن اعتقاد أو لا، والإسلام يحتال في إثباته والكفر في نفيه فافترقا، والقياس أن تبين امرأة السكران لأن الكفر سبب للفرقة كالطلاق‏.‏ وجه الاستحسان أن الردة ليست بفرقة، وإنما تقع الفرقة لاختلاف الدين وردته ليست بصحيحة فلا يختلف الدين‏.‏ وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في صبي أبواه مسلمان كبر كافرا ولم يسمع منه الإقرار بالإسلام بعد ما بلغ، قال‏:‏ لا يقتل ويجبر على الإسلام، وإنما يقتل من أقر بالإسلام بعد ما بلغ ثم كفر، لأن الأول لم تجب عليه الحدود لأنه لم يصر مسلما بفعله وإنما بالتبعية وحكم أكسابه كالمرأة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والمرتدة لا تقتل، وتحبس وتضرب في كل الأيام حتى تسلم‏)‏ ومعناه يعرض عليها الإسلام، فإن أبت ضربها أسواطا ثم يعرض عليها الإسلام فإن أبت حبسها‏.‏ وفي رواية تخرج كل يوم وتضرب على ما وصفنا، لأنه لم يجز قتلها وقد ارتكبت جريمة عظيمة ولا حد فيها فتعزر، والتعزير الضرب والحبس، وإنما لا تقتل لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء مطلقا، ولأن كفرها الأصلي لا يبيح دمها لأنها ليست من أهل القتال فكذلك الكفر الطارئ‏.‏ وقد بينا في أول السير أن السبب الموجب للقتل أهليته للقتال، وأن النبي عليه الصلاة والسلام نبه على أنه السبب بقوله‏:‏ ‏(‏ما لها قتلت ولم تقاتل‏؟‏‏)‏ وحديث ‏(‏من بدل دينه فاقتلوه‏)‏ رواه ابن عباس، ومذهبه أن المرتدة لا تقتل فدل على تقييده بالرجال‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولو قتلها إنسان لا شيء عليه‏)‏ لأنه اعتمد إطلاق النص وهو مذهب جماعة من العلماء لكن يؤدب ‏(‏ويعزر‏)‏ إن كانت في دار الإسلام لافتياته على الإمام‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وتصرفها في مالها جائز‏)‏ إن كانت في دار الإسلام، لأنها تصرفت في خالص حقها، لأن عصمة المال تتبع عصمة النفس، وعصمة نفسها لم تزل، وبعد اللحاق زالت عصمة نفسها، ولهذا لا تسترق ما دامت في دار الإسلام، لأن دار الإسلام ليست بدار استرقاق، وإن لحقت ثم سبيت استرقت وأجبرت على الإسلام، لأن الصحابة استرقوا نساء بني حنيفة بعد ما ارتدوا وأم محمد بن الحنفية منهم، ولا تقتل كالأصلية ‏(‏فإن لحقت أو ماتت‏)‏ في الحبس ‏(‏فكسبها لورثتها‏)‏ إذ ملكها ثابت فيهما لما بينا فينتقلان إلى ورثتها، ولا ميراث لزوجها لأنها بانت بالردة ولم تصر مشرفة على الهلاك فلا تكون فارة، وله أن يتزوج أختها عقيب لحاقها، لأنه لا عدة عليها كالميتة، فإن عادت مسلمة أو سبيت لم ينتقض نكاح الأخت، لأن نكاحها لا يعود بعد ما سقط، ولها أن تتزوج من ساعتئذ لعدم العدة؛ وإن ولدت بأرض الحرب لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه من الزوج وهو مسلم تبع لأبيه؛ وإن ولدت لستة أشهر فصاعدا من حين اللحاق ثم سبيا معا كانا فيئا، لأن النسب غير ثابت من الزوج لعدم العدة فيكون الولد كافرا تبعا لها، والمملوكة تحبس فإن كان مولاها محتاجا إلى خدمتها دفعت إليه ويؤمر أن يجبرها على الإسلام، ويرسل القاضي إليها كل يوم من يجلدها على الإسلام جمعا بين المصلحتين‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏فيما يصير به الكافر مسلما‏]‏

فيما يصير به الكافر مسلما والأصل فيه أن الكافر إذا أقر بخلاف ما اعتقده حكم بإسلامه، فمن ينكر الوحدانية كالثنوية وعبدة الأوثان والمشركين، والمانوية إذا قال‏:‏ لا إله إلا الله، أو قال‏:‏ أشهد أن محمدا رسول الله، أو قال‏:‏ أسلمت أو آمنت بالله، أو أنا على دين الإسلام أو على الحنيفية فهذا كله إسلام‏.‏ وكل من آمن بالوحدانية وينكر رسالة محمد كاليهود والنصارى لا يصير مسلما بشهادة التوحيد حتى يشهد أن محمدا رسول الله؛ وطائفة بالعراق يزعمون أن محمدا مرسل إلى العرب لا إلى بني إسرائيل فلا يكون مسلما بالشهادتين حتى يتبرأ من دينه‏.‏ ولو قال‏:‏ دخلت في الإسلام، قال بعضهم‏:‏ يحكم بإسلامه لأنه دليل على دخول حادث في الإسلام وذلك غير ما كان عليه فدل على خروجه مما كان عليه، هكذا ذكره الكرخي في مختصره؛ ولو قال‏:‏ أنا مسلم كان أبو حنيفة يقول‏:‏ لا يكون مسلما حتى يتبرأ، ثم رجع وقال ذلك إسلام منه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والكافر إذا صلى بجماعة أو أذّن في مسجد، أو قال‏:‏ أنا معتقد حقيقة الصلاة في جماعة يكون مسلما‏)‏ لأنه أتى بما هو من خاصية الإسلام، كما أن الإتيان بخاصية الكفر يدل على الكفر، فإن من سجد لصنم أو تزيّا بزنار أو لبس قلنسوة المجوس يحكم بكفره‏.‏ وعن محمد إذا صلى وحده واستقبل قبلتنا كان مسلما، ولو لبى وأحرم وشهد المناسك مع المسلمين كان مسلما‏.‏ أكره الذمي على الإسلام فأسلم يصح إسلامه، ولو رجع لا يقتل، ولكن يحبس حتى يرجع إلى الإسلام‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏في الخوارج والبغاة‏]‏

الخوارج والبغاة مسلمون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ إخواننا بغوا علينا، وكل بدعة تخالف دليلا يوجب العلم والعمل به قطعا فهو كفر، وكل بدعة لا تخالف ذلك وإنما تخالف دليلا يوجب العمل ظاهرا فهو بدعة وضلال وليس بكفر‏.‏ واتفقت الأمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم‏.‏ وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا لكن يضلل، فإن عليا رضي الله عنه لم يكفر شاتمه حتى لم يقتله، وأهل البغي كل فئة لهم منعة يتغلبون ويجتمعون ويقاتلون أهل العدل بتأويل ويقولون الحق معنا ويدعون الولاية، وإن تغلب قوم من اللصوص على مدينة فقتلوا وأخذوا المال وهم غير متأولين أخذوا بأجمعهم وليسوا ببغاة، لأن المنعة إن وجدت فالتأويل لم يوجد‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا خرج قوم من المسلمين عن طاعة الإمام وتغلبوا على بلد دعاهم إلى الجماعة وكشف شبهتهم‏)‏ لأن عليا رضي الله عنه بعث ابن عباس يدعو أهل حروراء وناظرهم قبل قتالهم، ويستحب ذلك لأنه أهون الأمرين فلعلهم أن يرجعوا به‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يبدؤهم بقتال‏)‏ لأنهم مسلمون ‏(‏فإن بدؤوه قاتلهم حتى يفرق جمعهم‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ الآية، ولأن عليا رضي الله عنه قاتلهم بحضرة الصحابة، ولأنهم ارتكبوا معصية بمخالفة الجماعة فيجب صدهم عنها، ويجوز رميهم بالنبل والمنجنيق وإرسال الماء والنار على النبات ليلا لأنه من آلة القتال‏.‏ وما روي عن عبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة من القعود عن الفتنة فيجوز أنهم كانوا عاجزين عن ذلك، ومن لا قدرة له لا يلزمه‏.‏ وما روي عن أبي حنيفة أنه قال‏:‏ ينبغي أن يعتزل الفتنة، ولا يخرج من بيته إذا لم يكن هناك إمام يدعوه إلى القتال، فأما إذا دعاه الإمام وعنده غنى وقدرة لم يسعه التخلف‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإن اجتمعوا وتعسكروا بدأهم‏)‏ دفعا لشرهم لأن في تركهم تقوية لهم وتمكينا من أذى المسلمين والغلبة على بلادهم‏.‏ وكان أبو حنيفة يقول‏:‏ ينبغي للإمام إذا بلغه أن الخوارج يشترون السلاح ويتأهبون للخروج أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويتوبوا، لأن العزم على الخروج معصية فيزجرهم عنها، وفي حبسهم قطعهم عن ذلك، ويكتفي المسلمون مؤونتهم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإذا قاتلهم فإن كان لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع موليهم‏)‏ لأن الواجب أن يقاتلهم حتى يعودوا إلى الحق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تفيء إلى أمر الله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ فإذا كان لهم فئة ينحازون إليها لا يزول بغيهم لأنهم ينحازون إلى فئة ممتنعة من البغاة فيعودون إلى القتال؛ وأما الأسير فإن رأى قتله قتله لأن بغيه لم يزل، وإن رأى أن يخلي عنه فعل، فإن عليا رضي الله عنه كان إذا أخذ أسيرا استحلفه أن لا يعين عليه وخلاه، وإن رأى أن يحبسه حتى يتوب أهل البغي فعل وهو الأحسن، لأنه يؤمن شره من غير قتل‏.‏ وأما إذا لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم ولا يقتل أسيرهم، هكذا فعل رضي الله عنه بأهل البصرة، وقال‏:‏ لا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية، وقال يوم الجمل‏:‏ لا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا، ولا تذففوا على جريح‏:‏ أي لا يتم قتله، ولا يكشف ستر، ولا يؤخذ مال، وهو القدوة في الباب، ولأن المقصود دفع شرهم وإزالة بغيهم وقد حصل قال‏:‏ ‏(‏ولا تسبى لهم ذرية ولا يغنم لهم مال ويحبسها حتى يتوبوا فيردها عليهم‏)‏ لما تقدم من حديث علي رضي الله عنه، ولأنهم مسلمون والإسلام عاصم، وإنما يحبسها عنهم تقليلا عليهم، وفيه مصلحة المسلمين، فإذا تابوا ردت عليهم لزوال الموجب للحبس‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا بأس بالقتال بسلاحهم وكراعهم عند الحاجة إليه‏)‏ معناه إذا كان لهم فئة فيقسم على أهل العدل ليستعينوا به على قتالهم، ولأنه يجوز للإمام أن يأخذ سلاح المسلمين عند الحاجة فهذا أولى، وهو مأثور عن علي رضي الله عنه أيضا يوم البصرة، فإذا استغنوا عنه حبسه لهم ولا يدفعه إليهم لئلا يستعينوا به على المسلمين فيحبس السلاح ويبيع الكراع ويمسك ثمنه لأن ذلك أنفع وأيسر، فإذا زال بغيهم يرده إليهم كسائر أموالهم‏.‏ وما أصاب كل واحد من الفريقين من الآخر من دم أو جراحة أو استهلاك مال فهو موضوع لا دية فيه ولا ضمان ولا قصاص، وما كان قائما في يد كل واحد من الفريقين للآخر فهو لصاحبه لما روى الزهري‏.‏ قال‏:‏ وقعت الفتنة فأجمعت الصحابة وهم متوافرون أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو هدر، وكل ما أتلف بتأويل القرآن فلا ضمان فيه، وكل فرج استبيح بتأويل القرآن فلا حد فيه، وما كان قائما بعينه رد‏.‏ قال محمد‏:‏ إذا تابوا أفتيهم أن يغرموا ولا أجبرهم على ذلك لأنهم أتلفوه بغير حق، فسقوط المطالبة لا يسقط الضمان فيما بينه وبين الله تعالى‏.‏ وقال أصحابنا‏:‏ ما فعلوه قبل التحيز والخروج وبعد تفرق جمعهم يؤخذون به، لأنهم من أهل دارنا، ولا منعة لهم فيهم كغيرهم من المسلمين، أما ما فعلوه بعد التحيز لا ضمان فيه لما بينا، ولا يقتل من معهم من النساء والصبيان والشيوخ والزمنى والعميان لأنهم لا يقتلون إذا كانوا مع الكفار فهذا أولى وليسوا من أهل القتال، فإن قاتلت المرأة مع الرجال لا بأس بقتلها حالة القتال، ولا تقتل إذا أسرت وتحبس اعتبارا بالحربية‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا قتل العادل الباغي ورثه وكذلك إن قتله الباغي وقال‏:‏ أنا على حق، وإن قال‏:‏ أنا على الباطل لم يرثه‏)‏ لأنه قتله بغير حق ولا تأويل‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ لا يرث الباغي العادل في الوجهين لأنه قتل بغير حق‏.‏ ولنا ما روينا من إجماع الصحابة، ويكره حمل رؤوسهم وإنفاذها إلى الآفاق لأنه مثلة، ولم ينقل عن علي رضي الله عنه‏.‏ وروي أنه حمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رأس فأنكر حمله، فقيل له‏:‏ إن فارس والروم يفعلون ذلك، فقال‏:‏ أستنان بفارس والروم‏؟‏‏.‏ وقد قال أصحابنا‏:‏ إن كان ذلك رهنا لهم فلا بأس به، لأن ابن مسعود حمل رأس أبي جهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، والله أعلم‏.‏